أحلام البؤساء.. والفقر الذكر
أسامة عبدالستار موسى الفرا
التفاصيل
أحلام البؤساء.. والفقر الذكر
19-5-2010
بقلم: أبو يسار
في وطني أرى فتية لم يبلغوا العشرين ربيعاً بعد.. كالزهور الذابلة.. ترى القلق والخوف في حدقات عيونهم.. عندما تسأل أحدهم عما به ينظر إليك متسائلاً وهل لديك الحل؟، وتجدني في كثير من الأحيان أرغب في استدراج البعض منهم لحوار أو نقاش إن جاز التعبير، أفشل أحياناً وأنجح أحياناً أخرى، فكثير من هؤلاء الفتية لا يرغبون في خوض حوار لأسباب عدة.. بعضهم يخجل أن يحاورك كي لا يوقعك في الحرج عندما لا تجد إجابة لأسئلته المنطقية، وبعضهم لا يجد جدوى من هذا الحوار ويعتبره طحن هواء، وبعضهم وصل به الحنق واليأس لأبعد مدى فينظر إليك بطرف عين وكأنه يريد القول(بلاش حكي فاضي الحكي ما بيطعم خبز).
هؤلاء الفتية لديهم أحلام كبيرة وجميلة ولكنها تصطدم بالواقع المزري لشعبنا في غزة، هذا الواقع الذي يصيب أصحاب هذه الأحلام بالخوف والقلق واليأس، لا سيما وأن أحلامهم مشروعة وعملية ومنطقية ولا يقف في وجهها إلا الفقر، والفقر بالنسبة لهم يعني الجريمة يعني المرض يعني الجهل يعني الرذيلة يعني الموت يعني كل شيْ سلبي في مجتمعنا، ويجب أن لا ننسى ما قاله سيدنا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه (لو كان الفقر رجلاً لقتلته).
في غزة عشرات ألاف الخريجين ومن مختلف التخصصات في الطب والهندسة والصيدلة والفيزياء والكيمياء والرياضيات والآداب واللغات والتاريخ والجغرافيا والحقوق وعلم النفس .. إلى أخره والعشرات منهم تخرجوا بتقديرات عالية وحصلوا على تقدير الامتياز ولم يحصلوا على فرصة عمل أو معيد بالكلية التي تخرجوا منها لاستكمال دراساتهم العليا، هؤلاء الخريجين يضافوا إلى الأعداد الهائلة العاطلة عن العمل ليزيدوا جيش البطالة المتوغل في مجتمعنا، هؤلاء الخريجين الشباب لا يجدوا ثمن مواصلة من مكان لأخر بسيارة سرفيس أو ثمن فنجان قهوة على استراحة في الطريق أو كافي شوب في المدينة أو ثمن ساندوش فلافل إذا عض الجوع معدتهم أثناء بحثهم عن عمل هنا أو هناك.
قد تكون الأزمة أشد عندنا في غزة رغم وجودها في العديد من أقطار العرب كمصر والمغرب والعراق وتونس وبنسب أقل في سوريا والأردن، هي ظاهرة عامة تُسأل عنها الحكومات العربية المستريحة والنائمة في العسل والأكلة الأرز مع الحليب في منامها وأكثرهم مساءلة بالنسبة لنا هي حكومة غزة كونها المسئول الأول عن غزة وأهلها، أي حكومة لها مهمات إستراتيجية على صعيد الوطن في مقدمتها الأمن والأمان، والأمن والأمان لا يعني منع الجريمة والفلتان كما يرى البعض بل يعني الأمن الاقتصادي والأمن الغذائي والأمن المجتمعي وتوفير فرص العمل ومحاربة جيوش البطالة والتصدي للفقر، فعندما يشبع الإنسان وعندما يجد عملاً ويجد طبابة ويجد تعليماً ويجد كساءً فإن كل أسباب الجريمة والفلتان ستزول وتنتهي، فلا قتل ولا تجارة الحرام ولا السرقة ولا الدعارة المدفوعة الثمن ولا السطو ولا اختلاس المال العام...... إلى أخره.
وإذا أردنا أن نحدد مسئوليات الحكومات العربية عن الحال المزري لشباب العرب وما يدفعهم للهجرات الغير مشروعة حيث يموتوا في عرض البحار غرقاً وبالمئات أثناء فرارهم من أوطانهم باتجاه أوروبا بحثاً عن فرصة عمل قد تكون أو لا تكون؟ عراقيون ومصريون وفلسطينيون هم، يموتون بلا شواهد؟ من المسئول؟ أليست حكوماتهم النائمة في العسل تأكل وتشبع ويموت أعضاءها من التخمة، ستغضب تلك الحكومات وسيعتبر المتحدثون بأسمائها أن هذا تطاول وافتراء عليها كون وزرائها لا يناموا ولا يهدءوا ولا يجدوا وقتاً لتناول ما لذ وطاب من الطعام المحرم على الفقراء (الأسماك والكافيار والخراف والأوز والحمام) ويكتفوا بشطيرة فلافل أو جبنه أو لبنة يتناولنها وهم راكبون سيارتهم الفارهة المزودة بستائر سوداء تجري أمامهم الدرجات النارية وخلفهم سيارات الحراسة والمرافقة؟ أو وهم يجلسون تحت التكييف (في مكاتب مؤثثة بأثاث فخم وفاخر) حتى لا ينشغلوا عن خدمة شعوبهم سيئة الظن بهم والتي لا تقدر تضحياتهم براحتهم وسعادتهم من أجل هذا الشعب الناكر لجميلهم؟!، ولكن يبدو أن هؤلاء الوزراء والذين عرفت الكثير منهم هنا وفي عواصم العرب لا يلاحظوا أن مظاهر النعمة تبدأ بالظهور عليهم بعد توليهم تلك المسؤولية وكذلك تظهر على أبنائهم وزوجاتهم في الوقت التي لا تظهر فيه على القطاع المسئولة عنه تلك الوزارة التي يديرها ذاك الوزير؟، أليس ذلك أمراً غريباً؟، فبعض هؤلاء الوزراء انتفخت جيوبهم وفاضت على بنوك في الداخل والخارج وحظ الخارج أوفر (حتى لا ينكشف المستور) وتكرشوا حتى أصبحوا بلا رقبة (مع الاعتذار لشاعرنا الفارس العربي مظفر النواب).
ولعلم الحكومات النائمة في العسل فإن هناك أكثر من 400 ألف عقل عربي مهاجر في بلاد الغرب يحملون شهادات عليا في الطب والصيدلة والرياضيات والفيزياء والكيمياء والهندسة خسرتهم بلادهم وشعوبهم لعدم حصولهم على فرصة عمل في بلادهم وراتب أمثالهم هنا في شهر لا يساوي ربع ما تحصل عليه راقصة شرقية في ملهى ليلي في ليلة واحدة؟، ومن لا يصدق فليتفضل بالسؤال للسيدة فيفي عبده أو للبروفيسور الدكتور طارق حماد رئيس مؤسسة الطاقة النووية في القاهرة سابقاً.
هذه الحكومات المترفة المستنزفة لثروات شعوبها التي بالكاد تعيش ومعظمها تشد الأحزمة على بطونها لمقاومة قرص الجوع في أمعائها ولا تجد الحد الأدنى من تكاليف الحياة اليومية المتصاعدة غلاءً فاحشاً يدفع الكثيرين منهم للهرب أو الانتحار أو السرقة أو تلقى الرشى أو اختلاس المال العام.. ومن ينكر ذلك عليه اللجوء لمنظمات الرقابة المحلية والدولية ومنظمات حقوق الإنسان والمنظمات الإنسانية الأخرى وهيئات الرقابة الإدارية التي تراقب وتسجل وتحصي كل هذه الظواهر.
متى تدرك حكوماتنا أن الفقر هو آفة العصر وهو السبب الرئيس للمرض والجهل والتخلف وانتشار الجريمة والرذيلة في مجتمعاتنا ومتى تدرك أن مقاومة الفقر هي الأولوية والإستراتيجية فلا أمن ولا أمان ولا نهضة ولا تطور مع استمرار الفقر.
متى تدرك حكوماتنا أهمية التخطيط والتنمية معاً؟ ومتى تدرك أيضاً أن ترحيل وإيداع الأرصدة العربية للبنوك الأجنبية الغربية لا تشكل لنا استثماراً بل تشكل استثماراً لأعدائنا لتتسع مصانعهم وتفيض صناعاتهم المدنية والعسكرية فيصدروها لنا بأثمان مضاعفة لينهبوا منا أموالنا وثرواتنا مرتين.
وهل تدرك حكومات العرب أن ما لا يقل عن أربعة تريليون دولار (والتريليون هو ألف مليار) هي أموال عربية تستثمر في أمريكا وكندا وأوروبا ويسيطر على معظمها رأسماليون يهود، وعلى فقراء العرب وبؤسائهم أن يدركوا أن في كل حكومة عربية ابتداءً من حكومة غزة وانتهاءً في جيبوتي وزيران أحدهما للتخطيط والآخر للتنمية يكلفان ميزانية الدولة مئات آلاف الدولارات سنوياً بلا جدوى أو فائدة ..... فلا عزاء لكل الفقراء والبؤساء والفتية الزهور الذابلة.