...

جلسة مع النفس


محمود رفيق الفرا

محاضر جامعي

التفاصيل

جلسة مع النفس

بقلم: محمود رفيق الفرَّا

15-12-2009

عندما تختلط الأوراق و الحسابات و لا يعرف الرجل ما له و ما عليه , فيعيش في هذه الدنيا دون أن يعرف إلى أين يسير. و في الوقت الذي يرى الإنسانُ فيه الشمس تشرق و تغرب و اللقاءات تبدأ و تنتهي و بني آدم يولدون و يموتون يوما يوما سواء كانوا شيبا أو كهولا ...

في هذا الوقت يتعقل العاقلون و يجتهدون في السعي من أجل جلسة مغلقة و حصرية مع النفس, يعاتبها و يحاسبها على ما بدر منها في الأعوام التي مضت بشكل عام و في العام الماضي بشكل خاص , يحاسبها على ما فعلت مع الأهل و الجيران و الأحبة و قبل كل هؤلاء مع الله تعالى و شرعه, فيضع أمام عينيه شرع ربه و أعماله ليقارنهم و يعلم نفسه إلى أين تسير.

جلسة مع النفس هي مطلب لكل إنسان عاقل, في أي ديانة و أي بيئة , فحتى لو لم تكن مسلمًا و كنت فقط عاقلا فإنك تسعى لتجلس مع نفسك في ساعة صفا تحاسبها و تراجع حساباتها لتعرف ما لك و ما عليك , فما بالك و أنت مسلم تؤمن بالله تعالى و بشرعه و بما أنزل على محمد و تعلم و تؤمن تمام العلم الإيمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزولُ قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيما أفناه ، و عن شبابه فيما أبلاه ، و ماله من أين اكتسبه ، و فيما أنفقه ، و ماذا عمل فيما علم " و هو حديث ركزَّ فيه النبي صلى الله عليه وسلم على العمر و الوقت بشكل كبير فذكر العمر كاملا و خصَّ وقت الشباب بذكر لوحده لما لهذه الفترة من أهمية كبيرة , و أخبرنا أن الوقت هذا سنحاسب عليه و لن تزول قدمنا إلى جنة أو إلى نار حتى نُحاسب على كل ثانية من عمرنا, هل شغلناها في حلال أم حرام ؟

فبالله عليك أخي الحبيب – أختي الفاضلة هل بعد ذلك الحديث يمكننا أن نفرط في وقتنا؟ و أعجب لمن يحتفلون بأن عشرين عاما قد مضوا من أعمارهم و آخرون يحتفلون بما هو أكثر من ذلك أو أقل و كأنهم حققوا في ما مضى من أعمارهم النجاحات الكبيرة و اقتربوا من ربهم في ذلك العمر اقترابا لا مثيل له ...

جلسة مع النفس ... هي جلسة علينا أن نعقدها مع أنفسنا في نهاية كل عام بل في نهاية كل يوم قبل أن ننام لنعلم أين نحن وصلنا بالتحديد؟ و ماذا أنجزنا ؟, و بدلا من أن نحتفل بالمعاصي في حفلات نتشبه فيها بالكفار و عُبَّاد الصليب علينا أن نحاسب فيها أنفسنا لننجوا بها إلى بر الجنة.

جلسة مع النفس ... هي جلسة لابد أن نسارع لعقدها مع أنفسنا مع كل غروب للشمس يأتي بعد الشروق و مع كل ورقة شجر تسقط على الأرض بعد أن كانت قبل قليل خضراء يانعة و مع كل إنسان جديد نواريه التراب بعد أن كان قبل قليل بيننا و معنا ... هي جلسة لابد على كل متفكر في خلق الله تعالى أن يعقدها فهي جلسة للعقلاء فقط للحريصين على الجنة فقط, للذين ينظرون في تقلبات الحياة من حولهم على أنها إنذار لأولي الألباب.

و عليك و أنت جالس مع نفسك أن تُبعد من ذهنك تمامًا أهلك و أحبابك و عشيرتك و فصيلتك لانهم بكل تأكيد غدا عندما تستلم كتابك و تقف لحسابك الحقيقي لن تجد أحدا منهم معك كما قال الله تعالى : " يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ " , و أقول لمن إذا سمع هذه اللآية لا يتخيل الموقف و يتعجب منه قائلا لا يمكن لفلان أن يتركني و يبتعد عني ... أقول لهم ما هي أخباركم مع انفلونزا الخنازير ؟! و كيف ترى الناس و حالهم مع هذا المرض ؟! ألا ترى أن الناس اليوم إذا علموا أن رجلا مصابا بهذا المرض فإنهم يبتعدون عنه و يتركونه و إذا استطاعوا ألا يدخلوا من شارعه لا يدخلون ؟! فما بالك بغدٍ عندما يكون الاقتراب من شخص ما قد يدخلك النار في وقت أنت مشغول فيه بنفسك ؟!

جلسة مع النفس هي الجلسة التي تسبق النجاح إذا ما كانت جلسة حقيقة صادقة و أتبعتها بخطة من أجل غدٍ مشرق و مستقرٍ في جنة الرحمن.

و في الختام ... استودعكم الله