...

فوضى تُعجب النظام


محمود رفيق الفرا

محاضر جامعي

التفاصيل

فوضى تُعجب النظام

بقلم: محمود رفيق الفرا

17-11-2009

كثيرًا ما كره المسلم في هذا الزمان وضعًا يعيشه, و يكره ظلمًا يراه و يقع عليه , و لكنه أبدًا لم يبادر إلى التعبير عن ذلك الكره و ذلك الضيق الذي يعيشه , و حتى عندما يحاول ذلك فإنه يبحث عن طرق ملتوية و خفية لا يعلم بها إلا دائرة ضيقة جدًا من أصدقاءه و زملاءه.

و إذا ما تجرأ أحدهم على أن يرفع صوته إلى عنان السماء ليقول كفاكم ظلمًا لنا فإن أرضًا غير هذه الأرض هي التي سيعيش عليها هذا الصوت و أناس غير هؤلاء الناس هم الذين سيعيش معهم هذا الصوت , فما بالنا إذا ما تجرأ أحدهم فأعلن احتجاجه من خلال قاعدة "الظلم لا يُرفع إلا بالظلم" , و "ما أُخِذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة" فأي أرض سيعيش عليها و أي سماء ستُظله ؟!!

كل ما مضى كان يُسمى فوضى تهدد الأمن العام لذلك فإن أمن البلاد و وسائل الإعلام الحكومية و الخاصة يتم تجنيدها لمواجهة هذه الفوضى , و إذا لزم الأمر يتم إعطاء الفرصة لأعلى صوت شرعي "ديني" في البلاد لكي يوضح للعامة من الناس و الخاصة أن هذه الفئة من الناس و هذه الفوضى هي حرام شرعًا فيتم اختلاق الأدلة و تأويل الآيات و الأحاديث لكي يتم إقناع الناس بذلك , بل و تُسن القوانين و العقوبات في وقت وجيز لمعاقبة كل من يشارك في هذه الفوضى بأي شكل من الأشكال و الأمثلة على هذا كثيرة جدًا لست بصدد ذكرها.

و ما تعيشه الشوارع الإسلامية العربية في هذه الأيام من فوضى عارمة تتمثل في المنافسة "الغير شريفة" من أجل الحصول على بطاقة التأهل لكأس العالم , هي فوضى خانقة أضاعت كل روابط الوئام و الإسلام و العروبة بين المسلمين , دمروا الشوارع و المحلات و السيارات , اتهموا بعضهم البعض بالكفر و الفسوق و الضلال و العمالة , كل هذا على مرأى و مسمع من النظامين في البلدين المسلمين العربيين مصر و الجزائر , و الأدهى من هذا و أمر أن وسائل الاعلام المرئية و المقروءه و المسموعة شاركت بكل قوتها في إشعال و زيادة هذه الفوضى بشكل غير مسبوق, فتم تجنيد كل كوادرها و إعلاميها بقوة لم نشهدها و المسجد الأقصى تنتهك حرمته كل يوم, لم نشهدها و هناك أكثر من 40% من سكان العالم لا يعرفون شيئًا عن الإسلام , لم نشهدها و هناك أكثر من 30 منطقة و بلدة مسلمة يسام فيها المسلمون سوء العذاب, لم نشهدها و بعض الأنظمة العربية تمنع النقاب و الحجاب في مؤسساتها, لم نشهدها و بلاد الإسلام يتم احتلالها , لم نشهدها و المسلمين يذبحون في مواطن عديدة في هذا الكون.

و رغم هذه الفوضى و هذه العداوات التي تتولد و تتجدد بين المسلمين إلا أننا لم نسمع صوتًا رسميًا يوقف هذا الأمر و يُخرس هذه الفضائيات و يحطم تلك الأقلام خوفا على الصالح و الأمن العامين. بل إن الرأي الرسمي في البلدين سار مع التيار و مع الفوضى و دعمها من خلال التعامل مع السفراء و كأن حربا على البلاد قد وقعت بين الطرفين, و لا حول و لا قوة إلا بالله.

و الغريب في الأمر بل الحقير فيه أن هذا كله من أجل كرة جلدية قذرة و بطاقة تأهل لمسابقة لن تزيد من المسلمين شيئًا, و أصبحت كرة القدم و لاعبيها و مسئوليها هم نجوم المجتمع و هم عمادة و هم قدوة الشباب و الفتيات حتى صدق فيهم قول الشاعر :

أمضَى الجسور إلى العـلا بزماننـا كـرة الـقـدم

تحتـل صـدر حياتـنـا وحديثها فـي كـل فـم

وهي الطريق لمن يـريد خميلـة فـوق القمـم

أرأيـت أشهـر عنـدنـا من لاعبـي كـرة القـدم

أهـم أشــد توهـجـاً أم نار بـرق فـي علـم

ما قيمـة العلـم الغزيـر وأن تكـون أخـا حكـم

وتظـل ليلـك سـاهـراً تقضيه فـي هـم وغـم

مـا دام أصحـاب المعـالي عندنـا أهـل القـدم؟

لهـم الجبايـة والعطـاء بـلا حــدود والـكـرم

لهم المزايـا والهبـات، وما تجـود بـه الهمـم

فبفضلها سيكـون هـذا الجيل مـن خيـر الأمـم

وبفضلها يأتي الصبـاح وينتهـي ليـل الظـلـم

وتـرد صهيـون التـي مـا ردهـا علـم وفهـم

النـاس تسهـر عندهـا مبهورةً حتـى الصبـاح

إن هذا كله لا يدل إلا على أمر واحد فقط أن هذه الفوضى التي تعم البلاد ما هي إلا فوضى تعجب النظام فبها نسي المظلومون الظلم الذي وقع عليهم , و بها نسي المسلمون الأقصى و بلاد الإسلام , حتى أهل المقدس نسوا قدسهم و أقصاهم.

إنها فوضى لا تعجب إلا الأنظمة الفاسدة و الحكومات الغربية الكافرة , لأنه لا يوجد أفضل من هذه الفوضى التي تعمق الجراح بين المسلمين و تحطم كل العلاقات بين الأخوية فتضعف الأمة و تموت و كل ذلك في سبيل كرة القدم.

أحبتي في بلاد الإسلام , في مصر و الجزائر و فلسطين و كل بلاد العالمين , إن إسلامنا العظيم نهانها عن الفرقة و عن القتال و عن التعصب الجاهلي النتن , فلا تعصب في إسلامنا إلا للإسلام فقط , فكل ما دون ذلك لا يجوز لي أن أتعصب له , كان المسلمون يسيرون في جيش - فدفع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ، وقال المهاجري : يا للمهاجرين ، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( ما بال دعوى جاهلية ) . قالوا : يا رسول الله ، كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال : ( دعوها فإنها منتنة ) .

دعوها بما فيها , فو الله لا خير فيها ما دامت تفرقنا و لا تجمعنا , تزيد كرهنا لا تزيد محبتنا, أحبتي اتقوا الله في إيمانكم , اتقوا الله في أعماركم , في أموالكم , في أخوانكم و اعلموا أن ما تفعلوه من تعصب عقيم لن يفيدكم يوم يقف الناس أمام رب العالمين.

و في الختام, لي كلمتين الأولى لأنصار البلدين في كل البلاد أقول لهم لابد على كل مسلم يشهد هذه الفوضى و هذه الفتنة أن يكون له موقفًا منها و حيث أن هذا من الأمور المنكرة فلابد له أن ينكرها حسب قدرته و أقلها ألا يشارك فيها و أن يهجرها و أن يدعو من حوله لتركها, و أما كلمتي للمشجعين في البلدين أذكرهم بقول الله تعالى : " وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ", فهل تتركون الفرصة لكرة القدم أن تهدم الأخوة التي بناها بينهكم الله تعالى بالإسلام ؟!