...

طوبى للغرباء


يحيى نافع يونس الفرا

رئيس نيابة

التفاصيل

 

طوبى للغرباء

                                                                                          بقلم الأستاذ / يحيى نافع الفرا

                                                                                      رئيس نيابة غزة

كان يوم ميلادها بدايات عام 1947م بين ربوع الأهل والأحبة في المدينة الباسلة والبطلة قلعة الجنوب ، قلعة برقوق مدينة خان يونس ، البنت الأولى لوالديها ، عاشت وترعرعت حتى أنهت دراسة الثانوية العامة ومن ثم انتقلت قبيل حرب حزيران 1967 للدراسة بالمملكة العربية السعودية درست علم نفس تربوي ، وعاشت عند والدها الثاني الذي أحبها أكثر من أولاده ورعاها حتى بعد ما تركت العيش بمدينة أبها وانتقلت للعيش بالمملكة الأردنية الهاشمية حيث عملت مدرسة بمدارس الأونروا وهناك تزوجت من إنسان لا يربطها معه سوى أنه مغترب مهجر من وطنه مثلها بسبب العدوان والاحتلال الصهيوني  ، تعود جذوره من يافا عروس الشمال وهي من خان يونس قلعة الجنوب ، وأنجبت ولدان وبعد فترة من توقف الإنجاب رزقها الله بمولودة "آخر العنقود" وكانت تمثل لها الحياة كلها والأمل كله تعلقا ببعضهما البعض تعلقاً شديداً ، ضحت بوظيفتها في زمن كان الكثير يتمنى أن يكون معلم بمدارس الوكالة لتميزها الكبير وتفوقها العالي بين باقي المدارس سواء في داخل فلسطين أو خارجها ، وتلك التضحية كانت من أجل أن تتفرغ في تربية وتعليم طفليها ، كانت تعاني من ضيق العيش ومحدودية الدخل ورغم ذلك كانت تظهر بمظهر أنها أغنى الناس وكانت ترسل أموالاً تساعد بها أهلها وإخوتها وأخواتها في خان يونس وكانت تشعر بالمسئولية تجاههم في ظل الانتفاضة الأولى وكانت تتابع الأخبار لحظة بلحظة ، وكانت ترى في المنام رؤى منها ما يسرها ومنها ما يقبض قلبها فتسرع لتهاتف أهلها وتطمئن على كل فرد من أسرتها القريب والبعيد ، ساعدت والديها أول ما عملت في مدينة أبها بالسعودية وكانت لها المساهمة الكبرى في بناء بيت العائلة ، ثم كانت ترسل أموالاً في سنوات اعتقال شقيقها لدى الصهاينة في الانتفاضة الأولى ، ولم يكن أحداً يعلم كيف كانت تعيش وتقضي يومها في الغربة المريرة ، ولم تقوم بزيارة الوطن سوى ثلاث مرات كان آخرها صيف عام 1992 وكان هذا العام شهادة الثانوية العامة بالنسبة لي وبعد استلام الشهادة أخذت صور عنها معها وقامت بقيدي بإحدى الجامعات الأردنية وكانت متحمسة أن أدرس بالأردن حتى أكون قريباً منها ، وذهبت للأردن وكان في استقبالي زوجها وابنها الكبير على جسر الأردن ..... 

 

وبدأت رحلة عمري التي امتدت أربع سنوات من عمري قضيتها عندهم ولم أحس بأي غربة لأنها الأم الحنونة صاحبة القلب الكبير وعطاء بلا حدود كانت تتمنى أن أبقى عندهم طيلة العمر ، كانت تعيش في شقة مكونة من غرفتين وصالة صغيرة وعتمة ولا يدخلها شمس ولا هواء وبالإيجار ، ورغم ذلك كانت ترسل أموالاً كفيلة بأن تبني من خلالها قصراً وتوسع على نفسها وعلى أولادها إلا أنها كانت تعتقد بأن أهلها بخان يونس بحاجة لها ولدعمها ، رغم أنني أقسمت لها بعد أن رأيت بأم عيني كيف تعيش وتقضي يومها بأنها هي التي بحاجة لتلك الأموال وأن أهلها بخان يونس في رفاه ورغد أكثر بكثير منها ، رغم ذلك عاطفتها لم تجعلها تغير ما بداخلها من شعور وحب وانتماء لعائلتها ، ودائماً تفكر ليل نهار في أصغر واحد في العائلة وحتى الجيران والأصدقاء من العائلات الأخرى تتذكر دوماً أيام طفولتها ولا تنسى أية لحظة قضتها وعاشتها في أحضان مدينتها الغالية عليها والحبيبة لقلبها حتى أنني أجزم أن من يعيش بها نسي كثيراً من ذكرياته وحياته وابتعد عن الروابط الاجتماعية القوية إلا أنها باقية على أصالتها وانتماءها وغيرتها على عائلتها ووطنها وكانت تفتخر بأنها فلسطينية وتعتز أنها من خان يونس ويزداد فخرها بانتمائها لعائلتها، وكانت تحدثني دوماً عن كل ذكرياتها وأجمل لحظات حياتها وفي كل كلمة تتمنى أن تعود للعيش في خان يونس ودائماً تقول " أتمنى أن أعيش باقي عمري في غرفة مساحتها مترين في وطني وبين أهلي ويسوى عندي قصور الدنيا كلها".

 وغادرت الأردن بعد أن أنهيت دراستي عام 1996م وكانت آخر من احتضنني لحظة الوداع ، ولم أكن أشعر بأنه آخر وداع . كنت على أمل أن ألقاها مرة أخرى والأمل كان يراودني بأن يكون اللقاء في أرض خان يونس الحبيبة التي عشقتها وعشقت من فيها ، لم أكن أعلم بأن يداهمها المرض اللعين وبقيت تعاني سنوات عديدة وصامدة وصابرة وتعيش على أمل اللقاء مع كل الأحبة ، لم أكن أعلم بأنها ستترك الدنيا قبل أن نراها ولو لحظة الوداع الأخير ، إنني أحسد من قابلها في الأيام الخالية ومن كحل عينيه بالنظر إليها نظرة الوداع ، نال ذلك الشرف شقيقها الكبير والذي يعتبر بمثابة ابناً لها ووالدة له لأنها تشعر تجاه إخوتها بأنها الأم الحنونة لهم بعد أن فقدوا الأم في سن مبكر .

كانت في آخر أيامها فاقدة للوعي لمدة تزيد عن الأسبوعين وفاقت في آخر يومين حتى ترى من جاءها من وسط الحصار في ظل معاناة السفر والخروج من قطاعنا المحاصر وحادثته بكلمات قليلة ولكن كان بها الأثر الكبير على قلبه ، حتى أنها أودعت معه أمانة في آخر كلماتها بقضاء دين عليها وكأن الله سبحانه وتعالى سهل سفره حتى يتسلم الأمانة لتوصيلها لشقيقة زوجها في غزة هاشم ، ما أعظمها من أم حنونة وإنسانة عظيمة إنها في أحنك الظروف وأصعبها تتذكر الدين الذي في ذمتها تعتبرها رغم أنه دين كان عليها عندما أتمت بناء بيتها الذي عاشت به في أواخر سنين عمرها .

لم تغيب عن بالي للحظة واحدة رغم أنني لم أقضي سوى أربعة من السنين معها إلا أنها تعادل عمري كله ، أتذكر كل همسة ولحظة وابتسامة ودمعة ذرفت من عينيها شوقاً وحنيناً لوطنها وما يحزنني ويقطع قلبي حزناً وألماً أنها عاشت وماتت غريبة عن وطنها والحنين والشوق في عينها وقلبها يعتصر ألماً لبعدها عن أهلها وأحبتها، فطوبى للغرباء .

لم أقل وداعاً خالتي الغالية والحبيبة ولكن أقول إلى اللقاء في جنة الرحمن ورحمك الله وأسكنك الفردوس الأعلى .

هذه حياة الفلسطيني المهجر والمرحل عن وطنه يبقى طيلة حياته يقضي شبابه وفترات رجولته وشيخوخته وهو على أمل العودة ليكحل عيناه بتراب وطنه الغالي ويشتم نسيم البحر وزهور الورد الجوري ويستنشق الهواء المحمل بدماء شهداء فلسطين الزكية الذين رووا بدمائهم الطاهرة تراب فلسطين لتحريرها وعودة اللاجئين والمشردين في شتى الدول العربية والأوروبية ليجتمعوا مع أحبتهم على أرض وطنهم ، ولكن العمر يفوت لدى البعض ومنهم لا يرى أبويه ولا أشقائه مطلقاً حتى منهم لا يعرفون صورة وجه له يعيش ويموت غريباً إنها المعاناة التي لا يذوقها شعب سوى الشعب الفلسطيني الصامد والمجاهد.