...

صراع من أجل الاختصاص


يحيى نافع يونس الفرا

رئيس نيابة

التفاصيل

 

صراع من أجل الاختصاص

                                                                بقلم الأستاذ / يحيى نافع الفرا

                                                                                 رئيس نيابة غزة

استوقفني تقرير نشر في صحيفة الرسالة بعنوان " بأي قانون يحكم القضاء" ، وظهرت مؤسسة القضاء بمظهر غير لائق لحجمها ومكانتها من خلال التغطية الصحفية التي تعكس حجم الإهانة التي تعرضت لها تلك المؤسسة ،كونها تعتبر أهم مؤسسة تقوم على إرساء قواعد العدل والإنصاف والتي يلجأ إليها كل من له مظلمة يحتاج لحلها وإنصافه في مظلمته ، والمدهش أن من بيده حل خلافات المجتمع وأفراده ويدافع عن مقدرات الدولة وأملاكها ينشب بينها وبين ركنها الآخر خلاف وصراع على اختصاصات واختلافات في وجهات النظر، فمن يحل لهم خلافهم ؟؟؟؟

الصاعقة الأكبر أن لكل منهم مبررات تقنع السامع بأنه على حق فيأتي السؤال أين الخلل ومن المخطئ وعلى من تقع مسئولية المشاكل الحادثة بينهما ؟؟

من الطبيعي أن يكون اختلافات في وجهات النظر المتعددة ، في الأمور الشرعية نجد فقهاء يختلفون فيما بينهم على تفسير نص معين كل يجتهد في تفسيره كما يرى من وجهة نظره وبالأسانيد التي يراها مناسبة على القياس بها ومن خلالها على مسألة بعينها  ، ولكن !!!!!

لا يقع خلاف وصراع يطفوا على صفحات الصحف الإلكترونية وغيرها ومن الممكن أن يصل للفضائيات كما حدث ما بين القضاء والنيابة وتم زج نقابة المحامين بينهما مستغلة الخلاف الواضح ما بين القضاء والنيابة لتنشر سمها الزعاف في وسط تلك الخلافات لتحاول أن تحقق بعض من المكاسب الشخصية لها، ونسيت بأن تقوم بأدنى واجباتها في تحقيق العدل والإنصاف وأن تساعد من يستغيث لديها من إجحاف محامي بحق أحد المواطنين ويكون قد نسي القسم الذي أداه بأن يحافظ على شرف المهنة وأن يقوم بواجباته بأكمل وجه ، وتجدها هي التي تمايز في معاملتها ما بين محامي وآخر وليس القضاء من يحابي بعض المحامين دون الآخرين كما ذكر أمين سر النقابة في تصريح له يجب أن يحاسب عليه إن كان مجرد حديث دون دليل قاطع على ما يقوله ، لأن المحامي يجب أن لا يتلفظ بأي كلمة لا يوجد لديه دليل يثبت كلامه .

أما بخصوص الخلاف وطبيعته فهو مجرد خلاف في الرأي ووجهات النظر ولكن الإعلام قام بتسويق الخلاف بقالب خلافات أدت إلى فساد وجعلت الثقة مهزوزة في نظر الناس، فمن المستفيد من إشعال نار الفتنة وفتيلها ما بين ركني السلطة القضائية التي تعتبر السلطة المستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية ، وعن مؤسسات الدولة كونها الجهة التي من حقها محاسبة رئيس الدولة وكافة الوزراء في الدولة ، لذلك فيجب أن تكون منزهة عن أي عبث ونقد ، والحديث هنا يشمل النيابة والقضاء كونهما الركنان المكملان لبعضهما البعض ، فوظيفة النيابة العامة جمع الاستدلالات والتحقيق وتقصي الحقائق والاستجواب وتوجيه الاتهام لكل مخطئ ومن ثم إعداد لائحة الاتهام وتقديمها للقضاء لمحاكمته محاكمة عادلة .

والقضاء مهمته التمحيص والتدقيق في نظر القضايا المعروضة عليه وسماع كافة الشهود والبينات من كلا الطرفين وأن يصدر الحكم المناسب لكل واقعة دون تدخل أو تعرض لأي ضغوط خارجية في حكمه .

عندما يعرف كل طرف حدود اختصاصه الذي حدده له قانون السلطة القضائية وقانون الإجراءات الجزائية فإنه لا يكون هناك مبرر للصراع والخلاف ما بين القضاء والنيابة ، وسبق أن ذكرنا ليس عيباً أن يكون هناك اختلاف في وجهات النظر التي بها مساحة من الجدل ، ولكن العيب أن يتعمق الخلاف ليصبح صراع ومشاحنات تطفوا على السطح وتتناقلها وسائل الإعلام المختلفة ، كما حدث من خلال التقرير الذي نشر في صحيفة الرسالة وكان يحمل في طياته تراشق خفي ومعلن في بعض الفقرات خاصة التي صرحت بها نقابة المحامين باتهام صريح بأن القضاء يحابي بعض المحامين دون الآخرين ، وأن النيابة مسيسة وهذه عبارات عارية عن الصحة وهراء كبير ويجب على من يتعامل بالقانون أن يعرف أن الكلمة التي يقولها يجب أن يكون لديه سندها ودليلها ، فهو قانوني يجب أن يتميز عن غيره في طرح أي اتهام أو حكم يجب أن يكون لديه الدليل القاطع وإلا يعرض نفسه للمساءلة القضائية على التشهير والتجريح بحق مؤسسة كبيرة ومهمة وهو يعتبر جزءً منها كونه محامي جل عمله يكون أمام القضاء والنيابة .

كما أن نقابة المحامين يجب عليها أن تساعد على إرساء قواعد العدالة والإنصاف وأن تقوم بواجبها تجاه المجتمع وأن تحاسب كل عضو منتمي لتلك المهنة السامية عندما يخطئ كونه يكون قد أخطأ بحق نفسه وبحق المهنة وزملاؤه وأضر بسمعة تلك المهنة خاصة عندما يكون الخطأ صدر أثناء قيامه بواجبات مهنته سواء من تزوير أو نصب واحتيال أو خداع لموكله ، ولكن واقع الحال نجد أن النقابة ليس لها دور فعال نحو محاسبة وحماية أعضاءها فما قيل عن محاباة القضاء لبعض المحامين فهو مردود عليها ، كونها تهتم بأمور بعض المحامين وتتجاهل بعضهم.

أما ما ظهر من خلال التقرير ووضح بأنه مشاحنة وصراع ما بين النيابة والقضاء فهذا الأمر لم يصل للدرجة التي أظهرها التقرير ، ولكن الخلاف فقط كما أسلفت في وجهات النظر والاجتهاد كون أن القانون أعطى مساحة من السلطة التقديرية للقاضي حتى لا يكون القانون به جمود وإجحاف بحقوق المجتمع وأفراده ، وفي حالات معينة يكون هناك تقييد للقاضي بحد أدنى وحد أعلى في العقوبة ، ومن الطبيعي أن النيابة لا يعجبها التخفيف كونها خصم شريف يدافع عن الحق العام الذي يعتبر من خلاله رادعاً لكافة أفراد المجتمع وعبرة للآخرين والعقوبات المشددة تساهم في الحد من الجريمة وحجمها ، ومن الطبيعي أن يخطئ القاضي لأنه من البشر لذلك القانون حدد طريقاً للطعن من خلال الاستئناف للمحكمة الأعلى درجة ، ولكن هنا يجب أن ننوه بأن الأمر يتعلق بخطأ غير متعمد أو واضح وسافر من قبل القاضي ، أما تقدير العقوبة فهي تقديرية للقاضي وعليه أن يراعي جوانب كثيرة قبل أن يصدر حكمه وأن يكون في حدود المعقول والمقبول للشارع أيضاً ، فلا يجوز له أن يصدر حكماً في قضية رأي عام وواضحة أسبابها وطبيعتها بالغرامة أو مخفف بالحبس المشمول بوقف التنفيذ أو أن ينزل لأقل من الحد الأدنى فهنا لا يعتبر سلطة تقديرية ، فتصبح مصيبة قوية ويضع نفسه في شبهات القيل والقال ما بين أفراد الشارع وتهتز الثقة في أهم مؤسسة بالمجتمع ، وتهتز صورة القضاء لدى المواطنين ويجب أن يتم مراجعة المؤسسة حساباتها في توحيد الأحكام بشكل يتناسب مع كل ظروف كل قضية ، وألا يكون هناك تباين واضح في الأحكام بأن يكون حكمين متناقضين في ذات واقعة متشابهة في ظروفها وأركانها لأن ذلك منافي للعدالة المطلوب تحقيقها ما بين أفراد المجتمع الذي كفل القانون الأساسي حق المحاكمة العادلة لكافة أفراد المجتمع .

كما أننا ننوه بأن الخلاف ليس في اختصاصات ما بين النيابة والقضاء كونهما يعرفان اختصاصاتهما وحدودهما ، ولكن القضاء لديه قناعة هي كانت سبباً في ظهور الخلاف ألا وهي أنه ليس من حق النيابة أن تنتقد قراراتها إلا بطريق الاستئناف فقط ، ومن واقعنا العملي فإنه كثيراً من الأحيان يوجه المواطن اللوم لمؤسسة النيابة عندما يكون هناك حكم مخفف أو إفراج بكفالة في قضايا لم يقع بها صلح أو أنها ذات طابع خطير رغم أن الإفراج صادر عن المحكمة إلا أن الثقافة المنتشرة بين المواطنين بأن النيابة توقف فهي التي تفرج ولم ينتبهوا بأن هناك قضاء له اختصاصات أوسع من النيابة وان النيابة تقف مهمتها عندما تبدأ مهمة القضاء ، وأن النيابة توقف فقط مدة 48 ساعة والقضاء هو الذي بيده التوقيف المدد الأخرى وفقاً لقانون الإجراءات الجزائية رقم (3) لسنة 2001 .

ومن هذا المنطلق تجد أن النيابة تقف موقف المتهم أمام المواطنين بسبب هذا الاعتقاد وتكون في حيرة من أمرها ، ويقع على عاتقها أن تفسر للمواطن مواد القانون بسبب خطأ قامت به المحكمة أو سوء تقدير من جانبها ، هذا الذي جعل هناك اختلاف في وجهات النظر في مصوغات الأحكام ما بين التشديد والتخفيف في القضايا الهامة والخطيرة وليس ما تطلبه النيابة هو التشديد المطلق ، لأن الواقع يدلل على أن النيابة في كثير من الشكاوي تقوم بحفظها عندما تكون المصلحة العامة تقتضي ذلك لأن العاملين في سلك النيابة هم من مواطني هذا المجتمع وليسوا من كوكب آخر .

أحببت أن أوضح بعض النقاط التي استوقفتني من خلال قراءتي للتقرير سالف الذكر ، وانصح نقابة المحامين بأن تهتم بالقيام بواجباتها تجاه المحامين وأن تطبق القانون بحق المخالف حتى تكبر في نظر المجتمع وأن يثق المواطن أن هناك من ينصفه ، خاصة بأننا نوجه المواطن الذي لديه شكوى ضد محامي كان وكيلاً له في قضية ما أن يتوجه لنقابته بشكوى لديها كونه خالف قواعد تطبق عليها قانون تنظيم مهنة المحاماة ، وليس النيابة والقضاء سيوفاً مسلطة على رقاب المحامين .