وترجل الفارس
أسامة عبدالستار موسى الفرا
التفاصيل
2009.05.23
بقلم المستشار علي الفرا - قاضي المحكمة العليا
الكل يولد والكل يموت ...ولكن قليل هم الذين تخلد ذكراهم ..الرجال كثر ولكن قليل هم أصحاب المباديء..قد يعد الرجل بمائه ..وقد يكون آلاف الرجال بلا عدد..ولا غرابة في ذلك , ألم يقل الله سبحانه وتعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " ...أي أن الله عز وجل وصف إبراهيم عليه السلام بأنه كان أمة ولم يصفه بأنه فرد.
ومن هنا نقول بأن الدكتور محمد حسين الفرا المناضل الكبير والدبلوماسي العربي المخضرم الذي إنتقل إلى جوار ربه هذا اليوم كان يعد بآلاف الرجال ..كيف لا وهو الذي رفع اسم فلسطين وصوت فلسطين عاليا في المحافل الدولية وعلى منبر الأمم المتحدة , كيف لا وهو رجل المواقف الجريئة ورجل المباديء التي لا يحيد عنها رغم كل مغريات الدنيا.
بدأ حياته مناضلا مجاهدا من أجل قضية شعبه ..فقد كان رحمه الله عضوا في فريق النجادة والتي كانت معروفة في فلسطين قبل النكبة بل وكان خطيب فريق النجادة ثم سافر مع بداية النكبة إلى الولايات المتحدة ليواصل مسيرته التعليمية وعندما أتيحت له فرصة زيارة مبنى الأمم المتحدة في نيويورك ووجد أن منبر الأمم المتحدة هو الذي يوصل الصوت إلى العالم ...قال "موقعي هنا"...فعمل عضوا في الوفد السوري الدائم لدي الأمم المتحدة والذي كان برئاسة فارس خوري في ذلك الوقت وقد أعجب فارس خوري بذكاء الرجل محمد الفرا ثم واصل عمله ودراسته إلى أن حصل على درجة الدكتوراه في القانون.
ثم ترأس الوفد الأردني لدى الأمم المتحدة ليصبح المندوب الدائم للأردن لدى الأمم المتحدة وكان هو المدافع عن القضية ..قضية فلسطين في جميع المحافل الدولية ولم يكن يتكلم بإسم الأردن فقط ولكن تكلم بإسم فلسطين , لم ينسى ولو للحظة واحدة أنه فلسطيني كيف ينسى وهو يتذكر الثوار في فلسطين عام "36" وقد عمل معهم وكانت مهمته تنبيههم بقدوم الإنجليز وذلك بواسطة آلة موسيقية كان يحسن العزف عليها .
الدكتور الفرا الرجل الذي يعرف متى يعرض قضيته ويعرف كيف يستطيع الحصول على التأييد الدولي لها ..
هذا الفارس الذي ترجل هو صاحب قرار 252 , هذا القرار الذي لا يعرفه الكثير من الفلسطينيين القرار 252 الذي صاغه الدكتور محمد الفرا والذي يعترف بعروبة القدس وأنها جزء من الضفة الغربية وقعت تحت الإحتلال الصهيوني, القرار الذي أصر على التصويت عليه في مجلس الامن رغم معارضة حكومته في ذلك الوقت له وتحميله المسئولية في حال فشل مشروع القرار, وقد استطاع فعلا الحصول على تبني مجلس الامن لذلك المشروع ليصدره تحت رقم 252 بأغلبية 14 دولة وامتناع الولايات المتحدة عن التصويت والتي لم تستطع إستعمال حق النقض "الفيتو " في ذلك الوقت لإبطاله.
الدكتور محمد الفرا الذي رفض أن يكون وزيرا للإعلام الأردني عام 1970 معتذرا عن قبول المنصب لأنه رأى بحصافته وبعد نظره أن الأمور تسير بين الفدائيين الفلسطينيين والجيش الاردني إلى الأسوأ وبالفعل إندلعت حرب أيلول الأسود بعد ثلاثة أشهر من تاريخ رفضه منصب الوزير.. وقد إعترف الشيخ عبدالحميد السائح رحمه الله والذي قبل أن يكون وزيرا في تلك الوزارة الوطنية إعتراف أن الوحيد الذي كان عنده بعد نظر هو الدكتور محمد الفرا.
هذا الرجل والذي من أجل قضيته ترك العمل في السلك الدبلوماسي الأردني ليعمل أمينا عاما مساعدا للجامعة العربية لشئون فلسطين ليواصل نضاله من أجل قضيته.
هذا الرجل الذي عندما رأى أن المنطقه مقبله على ما يسمى "بالسلام" مع "إسرائيل" رفضه رفضا قاطعا مقدما إستقالته فطالبه جميع المندوبين لدى الجامعة العربية البقاء في منصبه ..وقد كنت في ذلك الوقت في القاهرة ..وعندما رأيت مطالبة الجميع - ومنهم رؤساء وزارات ووزراء خارجية ومندوبون دائمون- للدكتور الفرا البقاء في منصبه ورفضه لذلك ..طالبا من الدكتور أحمد عصمت عبدالمجيد الأمين العام للجامعة العربية في ذلك الوقت اعطائه الكلمة ومصرا على ذلك ليشكر الجميع في كلمته ويصر على عدم البقاء في منصبه...
وعندما سألته :"لماذا يا دكتور رغم إلحاح الجميع عليك بالبقاء في هذا المنصب الرفيع الذي يتطلع له الكثير" ..
أجابني بعبارة لم تكن تخطر على بالي أو على بال احد قائلا "لقد كنت أنا من فرض المقاطعه الإقتصادية العربية عن إسرائيل بصفتي رئيسا لمجلس الوحدة الإقتصادية العربية ..والآن العرب مقدمون على رفع هذه المقاطعه عن إسرائيل ولن أقبل أن ترفع المقاطعه في عهدي" هذا هو رجل المباديء..هذا هو المناضل من أجل قضيته ووطنه ..
هذا هو الرجل الذي كان يستعين به الزعيم الخالد فينا ياسر عرفات رحمه الله في سنة 76 أننا مقدمون على التفاوض مع إسرائيل وانه يرشحه ليرأس الوفد المفاوض قال لعرفات : "لا تنقصني الشجاعة في رئاسة الوفد المفاوض على أن تكون بداية المفاوضات هي القدس وإذا فشلت فلتتحطم على صخرة القدس " هذا هو بعد النظر الحقيقي للرجال.
الدكتور محمد الفرا مندوب الأردن الدائم لدى الأمم المتحدة وسفير الأردن لدى اسبانيا ورئيس مجلس الوحدة الإقتصادية العربية والأمين العام المساعد للجامعة العربية لشئون فلسطين.. رجل القمم ..رجل المباديء ..صاحب الكلمة الجريئة الذي لم تغره المناصب مفضلا الثبات على مبادئه..يرحل عنا مخلفا ذكرى حميده لا تمحوها السنين ولا تطويها ذاكرة النسيان ...هذا الرجل الذي صدق فيه قول الشاعر :
وكم من رجل يعد بألف رجل
وكم من رجال تمر بلا عداد
هذا الرجل الذي قال لي يوما في مكتبي وقد تكرم عليا بالزيارة "أنا لا أشكو فالشكوى انحناء.. وأنا نبض عروقي كبرياء"
عزاؤنا فيك أبا هادي أن تركت مبادئا لا تمحوها الأيام...وذكرى عطرة نذكرها في كل وقت وآن ...عزاؤنا فيك أن أنجبت وريث "هادي" و "هبة" فكانا خيرة شباب العصر
عزائي فيك أيها الفارس الذي ترجل.. لنفسي ولأرملتك أم هادي ولأبنائك هادي وهبة وإلى أبناء إخوتك. عزائي إلى الشعب الفلسطيني بل للأمة العربية برحيل البطل المناضل الفارس الكبير الدكتور محمد حسين الفرا
" يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ{27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً{28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي{29} وَادْخُلِي جَنَّتِي{30} "
إنا لله وإنا إليه راجعون
صورة تجمع القاضي علي الفرا يسار مع الرئيس الراحل أبو عمار مع الدكتور الراحل محمد حسين الفرا
بيانات الصورة : صورة تجمع من اليمين "هادي" والراحل الدكتور محمد حسين الفرا واللواء عبدالله الفرا وقاضي المحكمة العليا وكاتب المقال علي الفرا ......