الصديقة المخلصة للمرأة
أسامة عبدالستار موسى الفرا
التفاصيل
اعتدت في سنوات طفولتي أن أذهب إلى محل في بداية شارع البحر بمدينة خان يونس، كانت اليافطة الكبيرة "سنجر" التي تعلو المحل هي ما ترشدني إليه، لم أكترث يومها لمعرفة هوية مالكه وكيف تجرأ على اختيار اسم غربي وسط محلات كلها ناطقة بلغة الضاد، التجربة الأولى فرضت علي أن أردد كلمة "سنجر" طيلة الطريق كي لا تنسل الكلمة من ذاكرتي وأعود بخفي حنين، ما أن وصلت باب المحل حتى سارعت بالقول لصاحب المحل العجوز "سنجر"، ابتسم الرجل وقال هل تريد أن تشتري الشركة؟، لم أستوعب يومها ما قاله العجوز وأنا أحاول أن ألتقط وسط واحة الخجل حاجتي لقطعة صغيرة لماكينة خياطة من نوع "سنجر".
ترسخت من يومها علاقتي الخاصة بتلك الماكينة الصغيرة التي تحتل أهمية كبيرة في المنزل، العلاقة ولدت من رحم الصداقة التي تربطها بالوالدة "رحمها الله"، حيث احتلت المساحة الأكبر في حياتها وكانت الأقرب إليها، فهي الشركة التي تقتات الأسرة من ايراداتها بعد رحيل ولي الأمر في حرب حزيران 1967، الماكينة الصغيرة المطعمة برسومات فرعونية باللون الذهبي تدار يدوياً، قبل أن تستوعب بعد سنوات الموتور الكهربائي الصغير مرافقاً لها، على مدار سنوات طويلة لم تكن الوالدة بحاجة لمتابعة ما تنتجه بيوت الأزياء التي لا تعرف شيئاً عنها، يكفيها أن تتبادل مع صاحبة الشأن الاجتهاد لتضعا سوياً الشكل العام للثوب المتناغم مع ثقافتنا، لم تكن الفتاة بحاجة يومها لأن تضفي على ثوبها مزيداً من الأهمية باستحضار الدولة التي جاء منها، كل ما يعنيها أن يحمل إطلالة الجمال الشرقي.
اختفت منذ سنوات يافطة "سنجر" واكتظت شوارعنا بالاسماء العجمية التي يحمل البعض منها دلالاته فيما تغيب عن الباقي منها، وأغلقت مصانع الخياطة أبوابها بعد أن اقتحم المنتج الصيني أسواقنا، ولم تعد ماكينة الخياطة ضمن مقتنيات الأسرة ومصدر دخل كما كانت عليه في السابق، ولم يعد لشعار"الصديقة المخلصة للمرأة"، الذي أطلقته الشركة وهي تروج لماكينتها الصغيرة "سنجر موديل 27 "، بريق يلفت الانتباه، إن كان اسحق سنجر قد سجل براءة اختراعه لماكينته منتصف القرن التاسع عشر، وبدأت الشركة إنتاجها التجاري نهاية ذات القرن، ووصل منتجها إلينا منتصف القرن الماضي، فالمؤكد أن رحيلها من عالمنا كان سريعاً، وفيه دلالة على تراجع بين لثقافة الانتاج أمام ثقافة الاستهلاك التي باتت تضرب أطنابها في تفاصيل حياتنا.
على مدار سنوات لعبت ماكينة الخياطة دوراً محورياً في مفاهيم المشاريع الصغيرة المنتجة، وكنا نأمل أن توسع الحكومات الفلسطينية المتعاقبة من مساحة اهتمامها بتمويل مثل هذه المشاريع، لكن من الواضح أن المساحة تقزمت إن لم نقل اختفت في جوف المناكفات التي تعصف بضرورات حياتنا، ما يثير القلق لا يتعلق فقط في أننا تنازلنا طوعاً عن قيمة أن نلبس مما نصنع، وما لذلك من انعكاسات على الذوق العام، بل القلق الأكبر يكمن في الثقافة الاستهلاكية التي تربعت على مكونات حياتنا، لم يعد للمبادرات الخلاقة في المشاريع الصغيرة المنتجة، التي يمكن من خلالها أن نقلص من حجم البطالة ومستوى الفقر داخل مجتمعنا، حاضنة توليها الأهمية المطلوبة، الحاضنة التي تعمل على أكمل وجه هي تلك المتعلقة بالمناكفات التي تبقينا خارج دائرة احتياجاتنا الحياتية اليومية.