فضائل شهر الله المحرم وأحكام يوم عاشوراء
أسامة عبدالستار موسى الفرا
التفاصيل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وبعد...
1. مكانة شهر محرم في الإسلام:
شهر الله المحرم له في الإسلام حرمة وفضل:
أما حرمته فلأنه من الأشهر الأربعة الحرم، التي قال الله تعالى عنها: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (سورة التوبة، الآية 36 ).
وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حَجِّتِه، فقال: ( ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض؛ السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر بين جمادى وشعبان ) متفق عليه.
وظلم النفس منهيٌّ عنه في كلِّ زمانٍ، لكن خصَّ الله الأشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها، وتعظيماً لمكانتها، ذلك أن العمل الصالح فيها مضاعف؛ فكذلك المعاصي إذا تركبت فيها تكون مضاعفة.
ومما على شاكلة ذلك قوله تعالى عن الحج: { فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } ( سورة البقرة: من الآية 197 )، مع أنَّ الفسوق والجدال منهيٌ عنهما في غير الحج كذلك.
وأما فضله فيدل له ما أخرجَه مسلمٌ في صحيحهِ عن أبِي هريرةَ " أن رسولَ اللهِ r قال: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ)، فصيام شهر الله المحرم يأتي في المرتبة الثانية بعد صيام شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم محرم بشهر الله، وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله، ذلك أن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته وعباده.
ولذلك قال الحسن البصري: إن الله افتتح السنة بشهر حرام وختمها بشهر حرام، فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم، وكان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه.
2. فضل يوم عاشوراء ودلالاته التاريخية والحضارية.
يُوافقُ يومُ ( عاشوراء ) اليومَ العاشرَ من شهرِ مُحَرَّم، ويُقالُ لليومِ الذي يسبقُه ( تاسوعاء )، وهو يوم فضيل؛ لما أخرجَ مسلمٌ في صحيحهِ عن أبِي قتادةَ " أن النبي r قال: (وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)، فصيامُ يوم عاشوراء يُكفِّرُ ذنوبَ السنةِ الماضيةِ كاملةً، بشرطِ اجتنابِ الكبائرِ، وردِّ حقوقِ العبادِ لأصحابِها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( مَا عَلِمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ يَبْتَغِي فَضْلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَشَهْرَ رَمَضَانَ )، وأصله في البخاري.
ويومُ عاشوراء له دلالاتٌ تاريخيةٌ وحضاريةٌ كبرى؛ فهو علامةٌ فارقة بين الإيمان والكفر، ومبشرٌ من مبشرات انتصار الحق وأهله، واندحار الباطل وحزبه؛ حيث أنجى الله فيه موسى عليه السلام وقومه من فرعون وملئه، وأغرقه في اليم وجنوده أجمعين، ولذلك كانت اليهود تصومه.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه ) متفق عليه، وعند الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكراً ) وفي إسناده ضعف.
3. حكم صيام عاشوراء ومراتب صيامه:
صيامُ يومِ عاشوراء سنةٌ عن النبي r، ويُستحبُّ لِمن أراد صيامَه أن يصومَ معه اليومَ التاسعَ مُخالفةً لليهودِ الذين يكتفون بصيامِ العاشرِ، فقد أخرج مسلمٌ في صحيحِه عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ م قال: (صَامَ رَسُولُ اللَّهِ < يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ؛ فقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ <: فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ)، وقد جعل العلماء لصيامه مراتب:
الأولى: صيام اليوم التاسع والعاشر، وهي أفضل المراتب؛ لحديث ابن عباس وفي رواياته ( لئن بقيت إلى قابلٍ لأصومنَّ التاسع والعاشر )، ولذلك قال ابن عباس: ( صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ وَخَالِفُوا الْيَهُودَ ).
الثانية: صيام اليوم العاشر والحادي عشر؛ لحديث ابن عباس مرفوعاً: ( خالفوا اليهود صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده )، أخرجه أحمد وابن خزيمة، وفي إسناده ضعفٌ.
الثالثة: صيام اليوم التاسع والعاشر والحادي عشر؛ لحديث ابن عباس مرفوعاً: ( صوموا يوماً قبله ويوماً بعده ) والحديث إسناده ضعيف.
الرابعة: إفراد العاشر بالصيام ؛ لحديث أبي قتادة عند مسلم (وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ).
والخلاصة في ذلك أن الافضل للعبد في صيام عاشوراء أن يصوم معه التاسع اتباعاً للأثر، وله أن يصوم الحادي عشر بدلاً من التاسع تحقيقاً للمقصد وهو مخالفة اليهود، ومن شاء أن يصوم الثلاثة كان له ذلك، ومن صام عاشوراء منفرداً لا حرج عليه إن شاء الله تعالى.
4. الحكمة من مشروعية صيام عاشوراء:
الحكمة من صيام يوم عاشوراء تتلخص في شكر نعمة الله تعالى علينا، وتذكر معية الله جلَّ وعلا ونصرته لعباده المؤمنين، ذلك أنه يوم نجَّى الله فيه موسى عليه السلام وقومه من فرعون وجنوده، فصامه موسى شكراً لله تعالى، وصامَه نبينا صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه كما جاء في حديث ابن عباس السابق، فنحن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
أما الحكمة في صيام يوم معه مخالفة اليهود في اقتصارهم على صيام العاشر؛ كما دلت عليه النصوص السابقة، والأمة الإسلامية متميزة عن غيرها من الأمم؛ فلا تكون تبعاً.
5. هل يجب تبييتُ النية من الليل في صيام عاشوراء.
الأفضل في الصيام كله تبييت النية من الليل؛ لكنَّ صيام عاشوراء مندوبٌ وليس واجباً، وعليه فيجوز لِمَن لم يُبيِّت نيَّةَ صيامهِ مِن الليلِ أنْ ينويَ ذلكَ ما لَم يدخلْ الزَّوالُ، ويؤَذَّنَ للظُّهرِ، ما دامَ لم يِتناولْ أياًّ من المُفَطِّرات بعدَ أذانِ الفجرِ، والدليل على ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
6. إذا وافق يومُ عاشوراء يومَ الجمعة أو السبت فما حكم صيامه ؟
إذا وافقَ يومُ عاشوراء يومَ الجمُعةِ أو السبتِ؛ فلا حرجَ من إفراده بالصيامِ؛ لوجودِ السببِ المُقتضِي لذلكَ، بل يجوزُ صومُ السبتِ في عبادَة التطوعِ؛ فقد أخرجَ ابن حبَّان وغيره عن أمِّ سلمةَ ك قالتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ، أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ) حسَّنه الألبَانيُّ.
7. هل يجوز صيام اليوم العاشر من محرم بنية عاشوراء وقضاء أو كفارة ؟
لا يجوزُ لمَن أرادَ صيامَ عاشوراء أنْ يجمعَ في صيامِهِ بينَ نيَّةِ صيامِ الواجبِ؛ كالقضاءِ والكفارةِ، ونيَّة صيامِ عاشوراء؛ فكلُّ عبادةٍ مقصودةٌ لذاتِها، ولا تداخُلَ بين الصومِ الواجبِ والمندوبِ؛ لكنْ إذا وافقَ يومُ عاشوراء يوم الاثنينِ أو الخميس فلا حرجَ من إشراكِ النيَّةِ فيهِما.
8. هل يجوز تقديم صيام عاشوراء على قضاء رمضان ؟ وأيهما أفضل ؟
يجوزُ لمَن كانَ عليهِ قضاءُ صيامٍ أو كفارةٌ أن يقدِّم صيامَ يومِ عاشوراء عليهما؛ لتحصيلِ ثوابِ صيامِ هذا اليومِ الفضيلِ، وقد كان الإمامُ الزهريُّ يصومُ عاشوراء في السَّفرِ، ويُفطرُ رمضانَ، فلَمَّا سُئِلَ عن ذلكَ قال: (جَعَلَ اللهُ لرَمَضانَ عِدَّةً مِن أيَّامٍ أُخَر، وليسَ ذلكَ لعَاشُورَاء)، وقت القضاء موسّعٌ بخلاف صيام عاشوراء فغنه من المندوبات المضيقة؛ ولكن أنصَحُ مَن كانَ عليهِ قضاءُ صيامٍ أو كفارةٌ أنْ يُسَارِعَ لصيامِ مَا وَجَبَ عليهِ؛ تبرئةً لذِمَّتِهِ مِن العِبَادَةِ، وإجلالاً لله تعالى بالمسارعة إلى أداء ما افترض عليه.
9. بعض آداب ومستحبات صيام عاشوراء:
يُستحبُ تصويمُ الأطفالِ المُميِّزينَ في يومِ عاشوراء إذا كانوا يُطيقونَ ذلك؛ تعويداً لهم على العباداتِ والنوافلِ، ولأنَّ الصحابةَ رضي الله تعالى كانُوا يفعلونَه مع صبيانهم.
كما يثبتُ لصيامِ عاشوراء من المستحبَّاتِ ما يثبتُ لرمضانُ؛ مثل تأخيرِ السَّحورِ، وتعجيلِ الفِطرِ على الرطب أو التمر مع الماءِ، وكذلكَ من أكلَ أو شَرِبَ ناسيًا أكمَلَ صَومَه؛ فإنَّما أَطعَمَهُ اللهُ وسقَاهُ.
ويُستحبُّ الإكثارُ منَ الطاعاتِ في شهرِ محرم، وأهمُّها الصيامُ، لحديثِ أبي هريرة السابق: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ)، وخاصَّةً ما كانَ فِي الأيامِ العشرَةِ الأوائلِ مِنْه؛ ذلك أنَّها أعظمُها لاشتمالِها علَى يومِ عاشوراء، وقد كانَ السَّلفُ الصَّالحُ يُعظمونَ هذه الأيامَ، ولكنْ لا يُشرَعُ تخصيصُ العشرةِ الأوائلِ منْ شهرِ مُحرَّم بالصيام؛ لأنَّ ذلك لم يثبتْ عن النَّبِيِّ r، ولم يُنقلْ عن أحدٍ من السلفِ الصالحِ.
الشيخ محمد سليمان الفرا
قطاع غزة - فلسطين