كلمة حق ووفاء بمناسبة وفاة ابن العم الدكتور محمد حسين الفرا
أسامة عبدالستار موسى الفرا
التفاصيل
كلمة حق ووفاء بمناسبة وفاة ابن العم الدكتور محمد حسين الفرا
بقلم : الأستاذ الدكتور محمد علي
الفرا
2009-05-27
رغم توقفي عن الكتابة الصحفية منذ بضع سنين ، وانشغالي في البحث
العلمي ، إلا انه وبدافع من المسؤولية والوفاء أكتب عن الإعلام الراحلين من
الأصدقاء أو الذين كانت لي بهم صلة أو معرفة ، فأتناول جانباً من حياتهم قد تكون
خافية على الغير ربما يستفيد منها كثيرون.اكتب اليوم عن ابن عمي الدكتور محمد حسين
الفرا ، الذي انتقل إلى رحمته تعالى في الثالث والعشرين من هذا الشهر ، بعد صراع
طويل مرير من المرض أنساه أقاربه ومعارفه ، وأبعده عنهم ، وألزمه منزله ، حتى كان
ينسى عند الكثيرين ، وهو الذي كان - وبخاصة في الستينيات والسبعينيات من القرن
الماضي - ملء السمع والبصر - فقد كان من ابرز الفرسان العرب وغير العرب في الأمم
المتحدة ومجلس الأمن الدولي ، والذي أصبح رئيسه في وقت من الأوقات ، وقد سجل تجربته
ومسيرته في الأمم المتحدة في كتاب نشره باللغة الانجليزية ، وصدر باللغة العربية
بعد ذلك عن مؤسسة الأهرام المصرية بعنوان «سنوات بلا قرار».كثيراً ما كان يحدثني عن
صولاته وجولاته في الأمم المتحدة ، وفي المحافل الدولية والدفاع عن قضايا الأمة
العربية ، وعلى رأسها القضية الفلسطينية ، وكان له موقف جريء ، وهو صاحب رأي حر
ونزيه ، لا يخشى في الحق لومه لائم ، ولا يخضع للضغوط التي مورست عليه ، ولا يبالي
بالهجوم الذي شنه عليه المندوب الأمريكي الصهيوني في الأمم المتحدة «آرثر جولدبرج»
الذي اتهمه قائلا له بالحرف الواحد: «أنت الأردني الوحيد الذي أعرفه ، الذي يهاجم
الولايات المتحدة ويفلت من نتائج عمه». وكان ذلك في عهد إدارة الرئيس «ليندن
جونسون» في عام ,1967بناء على تذمر الإدارة الأمريكية منه ، وطلبها من الأردن النظر
في أمره ، استدعته الحكومة الأردنية وقابله رئيس الوزراء آنذاك «بهجت التلهوني» ،
ثم استدعاه جلالة الملك الحسين طيب الله ثراه. وكما اقنع رئيس الوزراء بسلامة موقفه
، تمكن من وضع الملك في الصورة الحقيقية لما يجري في الأمم المتحدة ، وموقف السفير
الأمريكي «جولدبرج» المنحاز كلياً لإسرائيل والمدافع عن أعمالها العدوانية ، وانه
كممثل للأردن في المنطقة العالمية يحرص على سيادة الأردن وعروبتها ، وحقها في اتخاذ
القرار الذي ينسجم مع توجهاتها الوطنية والقومية ، وهي السياسة والنهج الذي التزم
بهما الأردن شعباً ، وحكومة وملكاً. فما كان من الملك إلا أن شد على يديه وشكره ،
وأمر بعودته فوراً إلى مقر عمله رئيساً للوفد الأردني في الأمم المتحدة ، فاغتاظ «جولدبرج»
الذي كان قد أعلن في الأمم المتحدة بان محمد الفرا لن يعود ، وسيعين آخر بدلاً منه.
إن المقام لا يتسع لمواقف الدكتور محمد الفرا الكثيرة والجريئة والشجاعة في المحافل
الدولية وفي هيئة الأمم المتحدة ، وهو لم يكن المندوب الذي يقبل بتنفيذ ما يطلب منه
، فكثيراً ما كان يقنع الحكومة الأردنية بالموقف السليم الذي ينبغي اتخاذه على ضوء
الحقائق التي قد تكون خافية في أروقة الأمم المتحدة ودهاليزها ، وقد يكون هذا من
الأسباب التي جعلت بعض وزراء الخارجية ورؤساء الوزارات في الأردن ينأون عنه ، من
ثَمَّ إقصائه في النهاية ، ولما علم أمين عام الأمم المتحدة آنذاك «يوثانت» بإقصائه
عرض عليه أن يكون نائبه ، ولكن حبه لبلده وإخلاصه لوطنه جعلاه يعتذر عن قبول هذا
العرض رغم سمو المنصب وضخامة الراتب والتقاعد المجزي آنذاك ، وهو مبلغ خمسة عشر ألف
دولار مدى الحياة ، علماً بأنه كان في حاجة إلى المال.استدعاه احد رؤساء الوزراء
إلى عمان على إثر وشاية من عدو حاقد ، وقبل أن يذهب إلى عمان مرّ بالقاهرة ، حيث
قابله جمال عبد الناصر ، وعرضت عليه الحكومة المصرية - التي كانت على خلاف آنذاك مع
الأردن - اللجوء السياسي فرفض قائلاً بان الأردن بلدي والأردنيين أهلي وعشيرتي
والإنسان لا يتخلى عن أهله ووطنه ، ثم عرض عليه صديقه محمود رياض الذي كان آنذاك
أمينا عاما لجامعة الدول العربية أن يكون مساعده ، فقبل بشرط الحصول على موافقة
الأردن التي اعتبرت تعيينه في الجامعة مكسبا جديدا له ، وظل في الجامعة إلى أن يئس
من أحوالها وأوضاعها وتدهور أحوالها فقدّم استقالته منها ، فكان أول مسئول كبير
يقدّم استقالته منها.
تميز محمد الفرا بعصاميته فقد توفي والده وهو جنين في بطن أمه ، وتحمّلت أمه
الحاجّة عبء الأسرة ، يساعدها ولداها عبد السلام وقاسم «أبو منار» رحمهما الله ،
وعاشت الأسرة بمدينة يافا حيث عمل عبد السلام وقاسم في التجارة قبل أن يصبح أمينا
عاما لبلدية مدينة خان يونس مسقط الرأس ، وعمل محمد بمكتب عزيز شحاتة أشهر محام
وكان من أشهر محامي يافا وفلسطين ، وفي الوقت نفسه ساهم مع الشبيبة الفلسطينية في
يافا في حركة النضال الوطني ، فالتحق بمنظمة التجارة التي أسسها في يافا المحامي
محمد نمر الهواري ، وكان الهدف من إنشائها تدريب الشباب حتى يستطيعوا الدفاع عن
وطنهم من اليهود الصهاينة.
سافر في عام 1947 من ميناء حيفا بالباخرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، ودرس
القانون وحصل على الدكتوراه في القانون الدولي ليتسنى له الدفاع عن قضايا أمته ،
وبخاصة القضية الفلسطينية.لم يكن محمد الفرا يملك المال الذي يعينه على الدراسة
ومتطلبات الحياة والمعيشة ، فاضطر إلى إن يجمع بين العمل والدراسة ، وفي الوقت نفسه
، ورغم ضيق وقته ، كان نشيطاً في خدمة قضية وقضايا أمته العربية عمل لفترة من الوقت
مندوبا ومراسلا لمجلة «روز اليوسف» المصرية والتي كانت أهم مجلة وطنية في مصر ، وهي
التي اكتشفت قضية الأسلحة الفاسدة في حرب الجيش المصري بفلسطين عام ,1948التحق بعد
ذلك بمكتب الجامعة العربية بالولايات المتحدة ، ثم انضم للوفد السوري بالأمم
المتحدة حتى أصبح نائبا لرئيسه آنذاك «فريد زين الدين» وأخيرا اختاره الأردن ليكون
رئيساً لوفده في الأمم المتحدة ، فقبل العرض وكان من هم وأبرز الشخصيات التي احتلت
هذا المنصب. وكانت وسائل الإعلام العربية والعالمية تشيد بمواقفه في الأمم المتحدة
وتتابع دفاعه عن القضايا العربية ، وبخاصة عن الأقطار التي كانت تناضل من أجل
التحرر والاستقلال مثل تونس والجزائر ، ولذلك أصبح في وقت من الأوقات وكما يقول
المثل: ملء السمع والبصر.كان رحمه الله اكبر المدافعين عن القدس وعروبتها في الأمم
المتحدة ، ومن أشد المدافعين وأقواهم عنها ، وأبرز الذين قاوموا تهويدها رغم تعرضه
لكثير من الضغوط والتهديدات التي لم يأبه بها ولم يلتفت إليها ، واليه يرجع الفضل
في صدور قرار مجلس الأمن رقم 252 بتاريخ 21 ـ 5 ـ 1968 والذي جاء فيه:
1 - يعتبر (مجلس الأمن) جميع التشريعات والإجراءات الإدارية والتصرفات التي اتخذتها
إسرائيل ، بما في ذلك نزع ملكية الأراضي والممتلكات الكائنة عليها ، والتي من شأنها
تغيير الوضع القانوني للقدس ، باطلة لا يمكن إن تغير هذا الوضع.
2 - يدعو (مجلس الأمن) إسرائيل بصورة عاجلة إلى إلغاء جميع الإجراءات التي اتخذت
فعلا والى الامتناع فورا عن القيام بأي عمل آخر من شأنه تغيير الوضع في القدس.
3 - يطلب (مجلس الأمن) إلى الأمين العام إن يقدم تقريرا إلى مجلس الأمن عن تنفيذ
هذا القرار والكل يجمع بأن هذا كان - ولا يزال - اقوي قرار يصدره مجلس الأمن عن
القدس ، ولذلك فقد حرص المقدسيون على تكريم الدكتور محمد الفرا لصدور هذا القرار ،
ودفاعه الدائم عن القدس.. وللأسف أصبحت القدس اليوم على وشك التهويد الكامل ،
ويتعرض المسجد الأقصى لأخطار الهدم ، وقد خلت الساحة عن المدافعين عن القدس والمسجد
الأقصى ، ودخلت القضية الفلسطينية في مرحلة التصفية. كان رحمه الله بعيد النظر كان
قلبه ينفطر ألماً وحسرة على تدهور أحوال أمته ، وانقسام صفها ، وتفرق كلمتها ،
وتباغض أنظمتها ، وتخاصم حكامها ، واستسلام بعضهم للأعداء وقبولهم بالهوان ،
وانحسار العروبة وانتكاس راياتها. وكان أشد ما آلمه تعرض قضية فلسطين للتصفية بعد
إن تحولت من قضية عربية قومية إلى فلسطينية قُطرية نتج عنها صراع بين الفلسطينيين
الرافضين للنضال والكفاح والراغبين في الركض وراء سراب السلام وأوهامه. وكنت كثيرا
ما أهون عليه واسري عنه. وأحاول بعث الأمل والتفاؤل في نفسه ، ولكن المرض زاد عليه
، وأصيب بالزهايمر الذي غيبه عن أقاربه ومحبيه. وقد ساهم في تنكر المسئولين لتدهور
حالته الصحية ، فباع ما يملك في وطنه لينفق على علاجه وعلى متطلبات حياته وحياة
أسرته.
إن ما يحز في النفس إن يرحل هذا الفارس الشجاع والرمز الوطني الغيور فلا يجد من
يكرمه في حياته ويوفيه قدره ، ولا يجد من يسير في جنازته رسميا ولا مسئولا حكوميا
واحدا في حين تكرم الدولة من هو دونه بكثير.ولكن الذين ساروا في جنازته وألقوا عليه
تحية الوداع فهم محبوه الأوفياء المخلصون الذي أحبوه من صميم قلوبهم وقدروه. وهذا
هو الحب الصادق الذي لا يوازي بحب الرسميين الزائف الذي هو في حقيقته خداع ونفاق
ورياء.فليرحمك الله يا أبا هادي فأنت كبير في حياتك عظيم في مماتك رغم ما عانيت من
نكران وجحود ، وأنت ستظل حيا بأعمالك وسيرتك الطيبة التي تقهر بها الأحياء الأموات
،
وكما قال الشاعر: ليس كل من مات بميت إنما الميت ميت الأحياء