شاهد من العصر الحلقة الثالثة

في الحلقة الثانية شاهدنا كيف إنتقل البروفيسور محمدعلي إلى السعودية وكيف إستطاع أن يبني علاقات مع الأسرة المالكة ومع رجال الأعمال، ومن ثم تحدث عن أسباب تركه العمل بالسعودية والإنتقال للكويت وكيف ساهم هو والفلسطينيون الذين جاءوا الكويت آنذاك في بناء نهضة الكويت. عمل في مدرسة حَوَلّي لعامين ومن ثم إنتقل لمدرسة الشامية، وخلال هذه الفترة كان له دور صحافي بالصحف الكويتية وإذاعي بإذاعة الكويت. وأخيرا تحدث عن زيارة ياسر عرفات له عام 1961 ليتحدث عن معلومات تاريخية هامة تتعلق بحياة الشهيد ياسر عرفات. 

في حلقة اليوم يدور الحديث حول رحلة البروفيسور إلى بريطانيا وإستقراره في نيوكاسل وكيف إستطاع خلال عام أن ينال ثقة عمدة المدينة ورئيس بلديتها.. أحداث طريفة وشيقة تنتظركم في هذه الحلقة:

 

مكثت سنتين دراسيتين في مدرسة الشامية المتوسطة ثم انتقلت الى ثانوية كيفان في عام 1962م وبقيت فيها حتى عام 1966، وكان معي في المدرسة ابن العم الاستاذ محمود مصطفى الفرا االذي كان يدرس التربية الرياضية وقد حضر من ليبيا مع ابن العم الاستاذ حافظ عبد الرحمن الفرا الذي كان يدرس الرياضيات، وقد افتتحت ثانوية كيفان في أوائل الستينيات من القرن الماضي فأصبحت المدرسة الثانوية  الثانية بعد ثانوية الشويخ التي افتتحت في عام 1954 كما أذكر. 

في عام 1963 بدأ تلفزيون الكويت البث، وكان هناك برنامج ديني اسبوعي اسمه الاسلام والحياة يعده ويقدمه الشيخ علي عبد المنعم – مصري الجنسية، حصل على الجنسية الكويتية فيما بعد - ومدة البرنامج ساعة كاملة ويبث على الهواء مباشرة ويشترك الجمهور في الحوار والاسئلة بعد ان يتحدث ضيوف الحلقة، وكان برنامجا ناجحا حيث كانت الصالة دائما مزدحمة من كثرة عدد الحضور. وفي احد الايام زارني مقدم البرنامج الشيخ علي عبد المنعم وقال انه يريد تطوير البرنامج بالتطرق لمواضيع لها علاقة بالحاضر وبحث قضايا ومفاهيم لها علاقة بالقضية الفلسطينية والتي كثيرا ما تكون مغلوطة عند غالبية الناس مثل : العبرانيون، واليهود، والاسرائيليون، والصهيونيون، وقال بأنه عرف من كتاباتي اهتماماتي بهذه القضايا وتمكني فيها وذلك من متابعته لركن فلسطين الذي كان يستمع اليه أحيانا، وقال بأنه يود أن اكون العضو المشارك الدائم في البرنامج وهو يختار - بالتشاور معي- شخصا متخصصا في الموضوع الذي سيطرح في الحلقة القادمة ليتشارك معي في الحديث واجابة السائلين. وكان من ابرز الذين شاركوا معي في الحديث والنقاش السيد خالد الحسن أمين عام المجلس البلدي لمدينة الكويت ومن أبرز مؤسسي حركة فتح واصبح فيما بعد رئيس الشؤون الخارجية في منظمة التحرير الفلسطينية.

كان من ابرز احداث تلك الفترة انشاء منظمة التحرير الفلسطينية بعد مؤتمر القمة العربية في القاهرة عام 1964م وتكليف الزعيم الفلسطيني البارز السيد أحمد الشقيري للطواف في البلاد العربية للاجتماع بالفلسطينيين فيها والتشاور لتشكيل المنظمة. ولما جاء الى الكويت تجمعت حشود كثيرة في الاستاد الرياضي بثانوية الشويخ وضاق هذا المكان بالحضور رغم اتساعه الهائل، وهذا دلالة واضحة على الرغبة الشديدة للفلسطينيين لان يكون لهم كيان يجمعهم ويوحدهم ويتولى أمرهم وحتى يكون لهم دور فاعل في الدفاع عن قضيتهم وبخاصة بعد ان اصبحت قضيتهم بين الدول العربية كقميص عثمان، وقد طالب الفلسطينيون كثيرا الدول العربية منذ نكبتهم عام 1948 بالسماح لهم بعمل كيان فلسطيني ولكن لم يلقوا اذان صاغية، ولولا جهود الرئيس جمال عبد الناصر ومثابرة وذكاء احمد الشقيري، لما قامت المنظمة، ولذلك فان الشقيري هو الذي اسس المنظمة ووضع اسسها وصاغ ميثاقها من واقع خبرته كمحام قدير ودبلوماسي عريق فقد كان من ابرز الفلسطينيين في العمل الوطني في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين، وبعد النكبة عين مندوبا لسوريا في هيئة الامم المتحدة، ثم أصبح أمينا عاما مساعدا في جامعة الدول العربية وبعدها اصبح مندوبا للملكة العربية السعودية في الامم المتحدة برتبة وزير. 

قبل نهاية العام الدراسي 1966 فزت في منافسة بالحصول على منحة للدراسة في بريطانية للحصول على درجة الماجستير، وكانت فرصة العمر بالنسبة لي لانني كنت اتطلع منذ حصولي على الليسانس لاكمال دراساتي العليا حتى درجة الدكتوراه. 

 

في 15 سبتمبر 1966 اوصلني ابن العم محمود مصطفى الفرا الى مطار الكويت للسفر الى لندن والالتحاق بجامعة نيوكاسل في أقصى شمال شرق انجلترا، وكان في وداعي عدد من الاصدقاء والاقرباء والطلاب، وقد تركت اسرتي بالكويت على ان يلحقوا بي بعد أن يستقر وضعي في الجامعة واعثر على السكن المناسب. وكان من شروط المنحة تذكرة سفر ذهاب واياب من والى الكويت ومبلغ 57 جنيها استرلينيا شهريا وهو مبلغ جيد انذاك، علاوة على مبلغ معين لشراء الكتب ودفع رسوم الجامعة ومقدارها في ذلك الوقت 72جنيها. مكثت في لندن يومين في ضيافة المعهد البريطاني، وفي اليوم الثالث توجهت الى محطة سكة حديد كنجزكروس ومنها ركبت القطار السريع الى مدينة نيوكاسل، وتستغرق الرحلة ثلاث ساعات ونصف. لم يتوقف القطار الا في محطة دارلنجتون، وفيها شاهدت اول قاطرة بخارية في العالم، وهي التي صنعها جورج ستيفنسون عام 1814 وسماها "بلوخر" معتمدا على كشف جيمس واط لقوة البخار في القرن الثامن عشر. ومن درلنجتون التي توقف فيها القطار الذي نستقله قاد ستيفنسون قاطرته الى مدينة "ستوكتون اون تيز" وسار على سكة الحديد التي مدها من "دارلنجتون" الى "ستوكتون اون تيز" وكانت اول سكة حديد في العالم.

تحرك بنا القطار نحو مدينة نيوكاسل فوصلناها بعد ساعة وكان الوقت عصرا، ومررنا بمدينة درم المعروفة بجامعتها الشهيرة، ولم يتوقف فيها القطار.

 

كان في استقبالي في المحطة مندوب المعهد البريطاني حاملا يافطة باسمي فتقدمت منه، ولما اقتربت منه حياني ورحب بي واركبني في سيارته وأوصلني الى نزل اسمه: "فيرنوود انترتشرش هاوس" في حي جسمند وهو من ارقى أحياء المدينة وقد خصصت لي في النزل غرفة مؤثثة وفيه نتناول الفطور والعشاء يوميا فيما عدا السبت والاحد وفيهما تقدم لنا جميع الوجبات، وتتوفر في النزل مكتبة وصالة جلوس وقاعة للمحاضرات ومطعم وصالة طعام ويتولى التنظيف عدد من العاملات.

ذهبت للجامعه وسجلت نفسي ودفعت الرسوم ثم قابلت رئيس قسم الجغرافية البروفيسور وليم هاوس الذي رحب بي واستفسر عن احوالي ودراساتي في جامعة القاهرة وعملي في التعليم والبلاد التي عملت فيها وسألني ان كنت اشكو من شيء فقلت له باني اخشى ان تكون لغتي الانجليزية ليست في مستوى أقراني الانجليز الذين يدرسون معي للماجستير وهم خريجو جامعات عريقة مثل اكسفورد فقال لا تخشى شيئا فلغتك جيدة ومعلومتك ممتازة وخبرتك من العمل اكسبتك مهارات كثيرة.

كان من عادة المعهد البريطاني ان يوزع اسماء الطلبة الاجانب على عدد من العائلات البريطانية والتي هي على استعداد لدعوتنا الى منازلهم وتقديم الطعام واصطحابنا في جولة للتعرف على معالم المدينة وما حولها، وكان المعهد يهدف الى تشجيعنا الانخراط في المجتمع البريطاني للتعرف على العادات والتقاليد الشائعة هناك، وقد استفدت من هذه الزيارات كثيرا، وقد يكون من الطريف ان اروي بعض الاحداث والمواقف التي تعرضت لها وبعضها اتخذ طابع الطرائف.

تلقيت في احدى المرات دعوة من اسرة بريطانية عمل ربها رئيسا للشرطة في مدينة الناصرة بفلسطين في عهد الانتداب البريطاني، وجاء في الصباح وأخذني بسيارته الى منزله واستقبلتني زوجته وابنته بالترحاب حرصت الام على ذكر محاسن ابنتها وسلوكها وقالت انها تدرس التاريخ بالجامعة وانه ليس لديها صديق كعادة الانجليزيات وانها تحرص على العودة للمنزل بعد انتهاء الدراسة.

وبعد تناول الشاي وبعض الحلويات دعانا الاب لتناول الغداء في منطقة موربث وزيارة الكاثدرائية التاريخية فيها، ولما وصلناها قالت الزوجة وكانت ابنتها كريستين واقفة بجانبي وهي في غاية الجمال وممشوقة القوام وشعرها الذهبي مسترسلا تداعبه نسمات الهواء الندية: كم اتمنى لو تم الاحتفال بزواج ابنتي في هذه الكاتدرائية ثم فاجأتني بسؤال لم اكن اتوقعه: ما دينك يا محمد؟ فقلت لها مستهزءا بأنني اورثوذكسي، ولما انتهت الزيارة اوصلني الرجل الى النزل وقال بانه سيأتي لاخذي الى منزله في الاسبوع القادم.

لما وصلت المنزل في ذلك الاسبوع استقبلتني الام بوجه عابس وقالت موبخة : كيف تقول انك مسيحي بينما انت مسلم، انك كاذب وهى كلمة عند الانجليز مهينة جدا، فقلت لها: لم أقل لك انني مسيحي ولكن قلت ارثوذوكسي وهي كلمة لاتينية مكونة من مقطعين: المقطع الاول وهو أورثو وتعني العقيدة وذوكسي وتعني الصواب، وبذلك يصبح معنى الكلمة المركبة، العقيدة الصحيحة ونحن المسلمون نعتبر انفسنا على العقيدة الصحيحة، واني أسألك يا سيدتي الا تعرفين بأن محمد اسما مسلما وأنت كنت تعيشين في بلاد عربية كما انكم انتم البريطانيون تطلقون على المسلمين محمديون، وانه كان عليك ان تسأليني اذا كنت متزوجا او أعزبا قبل ان تتحدثي عن خصال ابنتك وفضائلها؟ لو سألت ذلك لقلت لك باني متزوج وأخرجت لها صورة زوجتي وبناتي التي لا تفارق جيب سترتي، فما كان منها الا أن قدمت لي بالغ اسفها واعتذارها متهمة نفسها بالجهل والغباء.

في المدن البريطانية الكبرى والتي منها نيوكاسل يطلق على عمدة المدينة او رئيس بلديتها (لورد ماير)، وقد جرت العادة ان يقيم عمدة نيوكاسل كل عام احتفالا سنويا في قاعة مركز المدينة، ويدعى اليه جميع الغرباء من شتى أنحاء العالم الذين يقطنون المدينة، وهم كثيرون. ويحضر الاحتفال مندوبا عن الملكة واللورد ماير، أي العمدة، ورئيس الجامعة ورئيس قساوسة المدينة، وفي كل عام يتم اختيار ضيف شرف من بين الغرباء، ويكون عادة من دول الكومنولث -اي رابطة الشعوب البريطانية- ومن المستعمرات البريطانية السابقة او من الاوربيين، وقد علمت بانه لم يسبق ان دعي اي عربي كضيف شرف ولا أدري ما السبب ولكن ربما لان المد القومي العروبي كان آنذاك بلغ الاوج بقيادة جمال عبد الناصر الذي كان يهاجم الاستعمار ويدعم الحركات التحررية في العالم وكان من أقطاب العالم وأسس دول عدم الانحياز في باندونج باندونيسية عام 1955 مع قادة كبار مثل نهرو في الهند وتيتو في يوغسلافيا ونكروما في غانا وشو ان لاين في الصين، وأحمد سوكارنو في اندونيسيا.

وعلى غير ما كان متوقعا، واستغراب الكثيرين فقد تم اختياري في احتفال عام 1967 لاكون ضيف الشرف، ولا ادري ما السبب الا ان من المرجح ان الترشيح كان من رئيس الاساقفة الذي وثق علاقتي معه بعد ان حضر جمعا للرابطة الاسلامية التي اخترت بالاجماع لاكون رئيسها، وفي هذا اللقاء اختلف المسلمون في تحديد يوم العيد واصرت كل جماعة ان يكون عيدها كما تعلن اوطانها، فالباكستاني، على سبيل المثال يُعَيّد كما يعلن في باكستان بينما يعيد السعودي كما تعيد السعودية وهكذا، وكنت آنذاك في مكتبي بالجامعة، فجاءني احد اعضاء الربطة وقال ارجو منك ايها الرئيس التوجه لمشاهدة المهزلة في قاعة الجامعة والتي يحضرها رئيس الأساقفة.

قبل التوجه الى القاعة اتصلت بالمركز الاسلامي بلندن لاستفسر عن العيد، فقالوا لي بأنه سيكون غدا ان شاء الله، ولما دخلت القاعة كان الهرج والمرج والصراخ على أشده ومنظر الاستغراب باديا على وجه رئيس الاساقفة.

وما ان دخلت قال مرافقي: الرجاء سكوت فها هو الرئيس قد حضر فسكت الجميع ولما اعتليت المنصة قلت ما مفاده، بأنه اذا كان على المسلم ان يتقيد بالعيد حسب ما تعلنه بلده ان كان يقيم فيها، ان كان البلد مسلما، وأما اذا كان يقيم في بلد غير مسلم، كبريطانية التي تقيمون انتم الان فيها وبها هيئة اسلامية معتمدة -ومن المعلوم بأن المركز الاسلامي هو الهيئة المعتمدة- فان على المسلمين التقيد بما تعلنه وقد اتصلت بهم واخبروني بان العيد سيكون غدا، وبناء عليه فاني اعلن لكم بأننا سنحتفل بالعيد غدا ان شاء الله، وان الاجتماع الان قد انتهى. واخترت بعض الاشخاص الذين اعتمد عليهم لاكتب لهم النداءات التي تقال يوم العيد وقبل الصلاة والتي تبدأ: الله اكبر الله اكبر الخ وذلك لحفظها وحتى يرددوها. ولما انتهى الاجتماع وقف رئيس الاساقفة وقال لي ما الذي فعلته؟ انني في غاية الاعجاب واني اود التعاون معك، فقلت له اشكرك واني اقبل دعوتك . .

أعود الان الى الاجتماع في قاعة المدينة، حيث ضموني مع الرسميين وهم مندوبة الملكة واللورد ماير ورئيس الجامعة ورئيس الاساقفة وقدموا لنا الضيافة في غرفة خاصة ثم ركبنا جميعا سيارة رولز رايس فخمة متوجهين الى قاعة الاجتماع ووقفنا في المدخل لاستقبال الضيوف والذين كانوا يقدرون بنحو خمسة الاف شخص، وبعد ان دخل الجميع توجهنا الى طاولة أعدت لنا وكنت اجلس بين ممثلة الملكة واللورد ماير.

بدأ الحفل بالسلام الملكي ثم تكلمت مندوبة الملكة، تلاها اللورد ماير ثم طلب مني القاء كلمة ممثلا عن الحضور وبصفتي ضيف الشرف فتوجهت لارتجل كلمة لم يتوقعها احد وكانت مفاجئة للجميع .



صورة للبروفيسور محمدعلي بجانب سيارته الأولى والتي إشتراها عام 1958 - الكويت


أول قاطرة بخارية في العالم صنعها المهندس البريطاني ستيفنسون عام ١٨١٤ وقادها من دارلنجتون الى ستكونون أون تيز على اول خط سكة حديد مدها بين البلدين ، هذه القاطرة لا تزال معروضة في محطة سكة حديد دارلنجتون في شمال بريطانيا
  

صورة لإحدى الأسر البريطانية التي استضافت البروفيسور محمدعلي في منزلها؛ من اليمين رب الاسرة واقفا والبروفيسور جالسا في الوسط وعلى يمينه كرستين الطالبة بالجامعة وعلى يساره والدتها - 1966


صورة للبروفيسورفي مدينة يورك التاريخية في شمال شرق بريطانية. وقد هاجر عدد من سكانها الى أمريكا وتخليدا لمدينتهم انشاءوا مدينة أسموها نيويورك، اي يورك الجديدة وهي اليوم تعد اكبر المدن الامريكية واهما -1966

 

 

 

عدد الزوار 65312، أضيف بواسطة/ إدارة موقع الفرا