الدكتور صبري الفرا خان يونس واقتحام العالم الأمريكي

خان يونس واقتحام العالم الأمريكي

 

بـقـلـم : نـاصـر عـبـد الـرحـمـن الـفـرا

 

إن كان بالإمكان وصف القرن الماضي بشيء فهو بداية أهم محاكاة مؤثره بين الشرق والغرب، محاكه، شأنا أم ابينا، حملت في طياتها سمات سلبية وكذلك إيجابية.

 

خلال هذه الحقبة اكتشفنا نحن أنفسنا باكتشاف الغرب لنا بعد أن اكتشفناه فيما بعد نحن. طبعاً، هناك من يمكن أن يتسأل وما علاقة الدكتور صبري في كل ذلك. الإجابة تلقائيه.

 

لتفهم التركيبة العقلية لأي إنسان فعلينا أن نقرأ مع افعاله الإطار التاريخي الذي نشأ وترعرع فيه المعنى. والدكتور صبري خلق، عام 1933، ضمن هذا الإطار، الذي بعد أن توغل الغرب بجيوشه وفكرة وثقافته وعاداته وتقاليده عالمنا، سل بعض رجال الشرق عزيمتهم وقرروا القيام بغزو معاكس، ليس هدفه الاحتلال أو الاستعمار وإنما اقتباس العلم من جهة ومن جهة أخرى، نقل مفاهيمنا، همومنا وأمانينا، الناجمة بعضها اقتحامهم مع ديارنا، كذلك ضمائرنا.

 

إدوار سعيد، مثله مثل الدكتور صبري عاش معظم حياته في الولايات المتحدة، يتحدث في كتابه الخالد: الاستشراق، عن هذه العلاقة بمفهوم الاحتكاك، الذي أشعل وحرق من جانب وأشعل وانار من جانب أخر. غيره تحدث حديثاً بلغة تصادم الحضارات. لقد كان الدكتور صبري وأمثاله من خير من انبروا لاستكشاف أسرار هذه المحاكاة ومحاولة قلب موازينها. والآن وعودة إلى وطننا، نقول أن لكل مدينةفي فلسطين رجال أوثقوا مثل هذا العهد، عهد محاولة قلب الأمور كلياً.

 

وعلى عاتق مدينتنا وقعت المسؤولية على الدكتور صبري الفرا، بحكم كونه من أول أبناء مدينة خانيونس، أن لم يكن الأول، ممن وصلوا للولايات المتحدة حاملين هذه المسؤولية، التي حينها كانت تتلألأ كمركز الجاذبية السياسية العالمية. ولقد وصل الدكتور صبري إلى هذا البلد اليافع طالباً للعلم من ناحية ومن ناحية أخرى، راغباً في ذاته احداث نقله نوعيه في أفكار وأساليب تعامل الولايات المتحدة معنا. للعلم ليس هو الوحيد الذي ارتقي لمثل هذا الواجب، بل، وللحقيقة التاريخية، معظم أبناء جيله ممن سافرا من عالمنا العربي لهذا البلد، وتحديداً مصر، سوريا، لبنان وفلسطين، كانت تلك أهم دوافعهم.

 

لم يكن حينها المال صاحب الدور الأول والأخير ولا العمل أو تبوء أعلى المناصب، فقط التعليم والدفاع عن حقوق شعوبنا المغلوب على أمرها، وفي نفس الوقت تغيير الصورة النمطية الدارجة في هذه البلاد. فعلاً تلك كانت حوافزهم الاساسية. الدكتور صبري، رحمة الله، طبق على أرض الواقع ما كان تجيش به نفسه وما كان يحمل أبناء شعبه ومدينته من هموم دفينه. لقد وصل الدكتور صبري إلى الولايات المتحدة في منتصف الخمسينات، لحظة تاريخية فاصلة في مسار هذا البلد، بعد أن أضحى مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، القوى العظمي. لذا، كل من كان يريد أن يبرز قضيته كان عليه شد الرحال الى كعبه السياسية المعاصرة. وإليها توجه فعلاً الدكتور صبري. مثله مثل أي طالب عربي التحق في جامعتها، فمارس مهمة اقتناء العلم، تحديداً الطب، مع مهمة شرح مظالم قضيتانا، أولاً في جامعات كانت تعج بالطلبة اليهود الذين أسسوا أقوى لوبي صهيوني في هذا البلد، وفيما بعد في مدافعاً عنها في مختلف المنابر الإعلامية والاجتماعية والسياسية. بدورة قام الدكتور صبري، تحديداً بعد الانتهاء من دراسته ومزاولته للمهنة، بالعمل على تأسيس مؤسسات عربية وطنية ودينية تعمل على منازلة مثل هذه المنظمات. لقد تشرفت في أحد الأيام في الصلاة في أهم مسجد ومركز ثقافي متواجد في مدينة لوس أنجلوس، الذي يحتوى على مختلف الخدمات الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية.

 

وقد حدثني مديرة المصري في حينه بأن الدكتور صبري لعب دوراً فاصل في إرساء قواعد هذه المؤسسة، حسب ما ذكرت بعد وفاه جريدة "لوس انجلوس تايمز". كما أسس مع جيمز الزغبي المعهد العربي-الأمريكي الذي كان ومازال أهم منبر يدافع عن القضايا العربية عامة والفلسطينية خاصة. طبعاً مثل هذه الأعمال جعلت منه مرجعية ضمن الجالية الفلسطينية عامة والعربية والإسلامية في الولايات المتحدة، وخاصة في ولاية كاليفورنيا، ورجل مدافع عن قضية وطنه بشكل مستميت. مثل هذا الفعل وما شابة جعل الدكتور صبري على علاقة مباشرة بقيادات منظمة التحرير الفلسطينية، وتحديداً مع المرحوم ياسر عرفات، الذي كان يرسله بشكل شخصي ومباشر، حسب ما تشرفت بالسماع منه، لمعرفة الواقع وإيصال رسائل إلى المؤسسات السياسية في الولايات المتحدة. مثل هذا الدور سمح بأن يكون اسم الدكتور صبري من بين الأسماء المحتملة لترأس مؤتمر السلام الذي كان سوف سيعقد في حينه في جنيف بعد حرب 1973 والذي فشل بسبب التعنت الإسرائيلي وعدم جاهزية عالمنا العربي للدخول في مسار سلام غير متوازن مع إسرائيل.

 

كما لعب دوراً بارزاً في استضافه الوفود العربية التي شاركت في الألعاب الأولمبية في لوس أنجلوس عام 1984. فعلاً، لقد كرس الدكتور صبري وأخواته وقتهم وبيوتهم ومالهم للدفاع عن قضيتنا وجمع العرب والمسلمين على كلمه سواء. من المؤكد أنه نجح وفشل في حينه، بسبب كثرة التنافر والتعقيدات. مثل هذه التعقيدات، دفعت الدكتور صبري إلى وضع نفسه على مسافه واحده من كافة القوى السياسية الفلسطينية، بخيرها وشرها. تأكيد لذلك أذكر فيما أذكر، كنت مسافراً معه وزوجته من مزرعته الخاصة لمدينة في مدينة سان ديغو إلى مدينة لوس أنجلوس، حينها كنت في عامي الثاني في كلية العلوم السياسية في جامعة مدريد، سألني: هل أنت منتمى إلى فصيل فلسطيني؟ فأجبته وبصدق: لم يحين الوقت ولكن لي علاقات شخصية ممتازة مع مختلف رموز هذه الفصائل. فرد علي: وهذا هو المنطقي والأفضل.

 

طبعاً مثل ذلك يعبر عن مواقف الدكتور صبري وعن انتماءه فقط لفلسطين ولقضيتنا العادلة وليس لجهة على حساب جهة أخرى أو على حساب القضية في مجملها. طبعاً إن كان الدكتور صبري يعشق قضيته فكذلك كان له عشق مع مدينتنا. وأذكر فيما أذكر بأني أول أكله أكلتها في بيته كانت عبارة عن سلطة في زبدية مع فول مطحون، غذاء مدينتا المقدس. كما وأذكر بأني قمت في أحد المرات، بتحضير فته على طريقة مدينتا الفاضلة خانيونس لضيوف له في خيمة عربية كان ناصبها في مزرعته على سطح جبل. طبعاً مكانه الدكتور صبري معروفة بين أبناء جيله ومن هم أصغر منه ممن كانوا على تواصل معه لاستشارته في كثير من الأمور، كما كانت على تواصل معه شخصيات فلسطينية، تحديداً المقيمة في بلاد الخليج والذين كانوا يزرون الولايات المتحدة بهدف العلاج أو السياحة.

 

إذا فقدت، عام 2000، الجالية الفلسطينية والعربية والإسلامية بفقدانه شخصية مثل الدكتور صبري، فقد فقدت مدينة خانيونس واحد من أبرز سفراءها في الخارج. لقد كانت وفاة حادثه مؤلمه خاصة وكا كان يروى، كان رجل التوازن والكرم الممارسان من طرفه بهدوء وصمت. هذه الصفات تبدو جليه حتى في ملامحه، كما كانت في تعابيره. لقد كان الدكتور صبري قدوة لكثير منا هنا وهناك ومرجعية لكل من دار في فلكه. يذكر، فيما يذكر، بأنه حين كان يزور مدينته الفاضلة، كانت تتوافد كافة مختلف شخصيات خانيونس لتراحب به، تقديراً لما تبوء من مكانه رفعت من أسم وشأن مدينه خانيونس وعلماً بعشق الرجل لهذه المدينة الصابرة.

 

 

عدد الزوار 9277، أضيف بواسطة/ إدارة موقع الفرا