الأكراد واقتناص الفرص على حساب العرب. د.ناصر الفرا

 هنالك كثير من القضايا التي يحاول الإنسان عدم الخوض فيها. أحياناً خشية من عواقبها الحادة وأحياناً حتى لا يفتح أبواب جهنم. وهنالك من يدرك بعض الحقائق وخفاياها، وعلى يقين بصواب هذا وخطأ ذاك، لكن يفضل الكتمان حتى لا يدخل في متاهات لا أول لها ولا آخر. أفظع أنواع المراقبة هي القائمة على كبح الذات لنفسها. أنه الشك الباطني الذي يجعل الإنسان يحتاط بالحذر ويتعمق بالتفكير قبل التدبير. المشكلة تكمن في أنه حين يتمكن من التغلب على مثل هذا الشعور، فلا بد أن يكون له أحد بالمرصاد، يتعقب كلامه ويحاول تلجيم أرائه.
في عالمنا العربي مثل ذلك يحدث في كثير من القضايا، وخاصة تلك التي تمس الأمور الدينية والقضايا العرقية. على عرش هذه الأخيرة تتربع القضية الكردية. دوماً هنالك تأن وتوخ للحذر قبل وحين يتم التعامل معها. لكن قوة الدفع التي تملكها حالياً هذه القضية، خاصة في العراق وسوريا، تشجع بل وتفرض الخوض فيها بشكل مباشر وصريح. مثل ذلك يصب في صالح الكرد من جهة وفي تماسك الدول والمجتمعات العربية من جهة أخرى.
لا يمكن لأحد أن ينفي الحقوق الكردية المشروعة. أصحاب القضايا العالقة هم أكثر من يمكنهم تفهم هذه الحقوق. حقوق تعاملت معها كثير من الدول بعقلانية وحساسية زائدة، وحيناً آخر ونتيجة ظروف عارضة، بعنف مفرط. مثل ما حدث ويحدث الآن في العراق وسوريا. لكن الحق يقال، بشكل عام وقت الاستقرار تم التعامل مع هذا الشعب وحقوقه بشكل سمح للكردي أن يشعر أنه أكثر عروبياً من العربي، وأن ينظر هذا نظرة شراكة تامة. هذا الشعور المتبادل والمميز لم يعشه الكردي في معظم الدول التي قطن فيها أو شرد منها. 
هذه الحقيقة كانت جلية بارزة للجميع، من عرب وكرد. وكل ما شابها من توتر نتج عن مواجهة مفعمة من قبل قيادات كردية أعتقدت دوماً أن البلدان العربية هي المهرة الأسهل امتطائاً للوصول إلى حقوقهم. رغم ذلك، الغالبية العظمى من قيادات الدول العربية ذات التواجد الكردي، رغم دكتاتوريتها المنبوذة، حاولت تغليب منطق العقل، بهدف تجنب إحداث نزيف في الجسد الواحد. هذا الأسلوب، الغريب عن العقلية الديكتاتورية، هو الذي أتبع. وما غير ذلك، رغم شدة وطئته، ليس سوى حالات استثنائية نتجت عن ظروف عارضة. عموماً لقد تم تفضيل والعمل على تأكيد أن الكرد، مثلهم مثل غيرهم، هم جزء من النسيج العربي القائم، ورغم امتلاكهم لغة وتقاليد خاصة، فأنهم مرتبطون تاريخياً، ووجدانياً، وفكرياً بكل ما هو عربي. لهم ما لهم وعليهم ما على غيرهم. 
الكل يعلم أن بؤرة أزمة القضية الكردية لم يكن يوماً منبعها عربياً. وإنما بدول عانى منها العربي والكردي الكثير من الويلات. رغم ذلك، فأن شعوب دول بعينها، العراق أولاً وسوريا لاحقاً، دفعوا وما زالوا يدفعون ثمن استمرار الظلم الواقع على الشعب الكردي، أحياناً من القيادات الكردية نفسها وأحياناً من أنظمة تضطهدهم أو تدعمهم أو تلاحقهم، حسب الضرورة. في عالم سياسي متـــوتر، مثل هذا الأسلوب غير مناسب وثمنه باهظ.
المعروف للجميع أن الدول العربية المذكورة منحت الكرد الكثير من الحقوق، أرضاءً لهم وعلى حساب كثير من شركائهم في الوطن، بمن فيهم العرب. طبعاً هنالك من سوف يفند هذا القول، وهذا صحيح ومن حقه، ويذكر بأن في هذه الدول كذلك، خاصة عراق صدام، واجه الكرد أشد وأبشع أنواع العقاب الفردي والجماعي. 
مثل هذا التصرف أكثر من منبوذ. لكن ولسوء الحظ الكل من عرب وكرد نالوا نصيبهم من جراء ظلم وتمادي الاستبداد. بالتالي القضية هنا ليست قضية مزايدات في هول المأساة، ولو كان كذلك، فلا أحد يمكن أن ينكر بأن العربي عانى من جحيم الاستبداد مثله مثل باقي أطياف المجتمع. إن كان من الواجب رفض كل ما حدث للأكراد من ظلم، فكذلك من الضروري تحليل كثير من الأحداث المؤلمة التي حلت بهم من زوايا سياسية مختلفة وليس من زاوية إنسانية بحتة. للأسف، المنطق يفرض، في لحظة ما، النظر والتعامل مع أي مأساة بموضوعية وحيادية تامة، لأن ذلك يسمح بإيضاح الأمور، واستخلاص العبر وتجلي الحقيقة، التي دوماً تكون الضحية الأولى في أي صراع مؤلم. 
يوماً ما، ليس بقريب، سوف تجد القضية الكردية طريقها إلى الحل. وسوف يكون حلها ناتجا عن رقي شعوب وقيادات المنطقة أكثر مما هو ناتج عن كفاح الشعب الكردي في حد ذاته. هذا الكفاح، المتأرجح بين هذا وذاك، لم يجلب للأكراد، الموزعة دماؤهم بين القبائل، سوى كثير من المحن والتعقيدات المحلية والإقليمية. وهذا أمر مؤسف. لكن وكما يعلم كثير من أبناء هذا الشعب، كل ذلك كان ناتجاً عن تسرع وعدم تقدير القيادات الكردية للوضع في كل دولة على حدة، في علاقة هذه الدول فيما بينها، ومراهنتها على قوى لا يهمها مصير الشعوب بمثل ما تهمها مصالحها الاستراتيجية. قيام هذه القيادات بالتقلب بين هذا أو ذاك الحليف، والعمل مع هذا ضد ذاك، كان وسيبقى ضرره أكثر من نفعه. والواقع قد أثبت ذلك، وليس من المستغرب أن تستمر تجلياته. 
ناهيك عن فتح قنوات مع الكيان الإسرائيلي. ذلك لم ولن يصب في صالح القضية الكردية. فقط يعطي أنطباعا بوجود نوايا مبطنة. نعلم بأن هنالك دولا عربية لها اتصالات مع إسرائيل، لكن المدرك للواقع يعي بأن كل أمر ناتج عن معطيات وأهداف مختلفة. كذلك ما لا يمكن التغاضي والقبول به، عن طيبة خاطر، هو ما حدث من قطع جزء من الأراضي العراقية لتكون نواة الدولة الكردية المقبلة. ما حدث للعراق، وما يمكن أن يحدث في سوريا، يجب تإطيره ضمن الاستراتيجية التدريجية التي تتبعها القيادات الكردية نحو إقامة دولتهم. لهم حق في ذلك، لكن لا يقبل أن تكون انطلاقتها على حساب الأرض والإنسان العربي. من الضروري أن نعيد ونذكر هنا بأن بؤرة الأزمة الكردية لم تكن يوماً في المحيط العربي. 
لا يصح لما هو عربي أن يدفع ثمن أخطاء الغير في حق الشعب الكردي. ولا أن يستغل ويقتنص هذا فرص ضعف الدول العربية وصراعاتها الداخلية لتكون دافعاً نحو فرض إرادته ورغباته. مثل ذلك أمر مرفوض وذو نتائج وخيمة. إن كان هنالك من يصمت على ذلك فهو صمت ناتج عن مضض وعن عدم إمكانية مواجهة الأمور بحزم أو امتلاك المقدرة على الردع. بين الحين والآخر النخب الفكرية الكردية تحذر قياداتها السياسية بعدم المراهنة واللعب على التناقضات الإقليمية والدولية. تفعل ذلك لأنها تعي أن مختلف القوى الفاعلة لا يهمها سوى الهيمنة على المنطقة، بمن فيها من عرب وكرد، متبعة في ذلك سياسة ضرب هذا بذاك. من طرفها، هذه القيادات، ذات العقلية القبلية القريبة من الأنظمة الاستبدادية التي تحاربها يوماً وتتحالف معها يوماً آخر، لم تع بعد قيمة نصائح نخبها الفكرية.
في عمق الوجدان العربي، الكردي لعب دائماً دوراً محورياً في دحر الغزاة من المغول، الصليبين، العثمانيين والصفويين. شخصية مثل الكردي صلاح الدين، يجب أن تكون أكثر من مجرد اسطورة خالدة جمعت العرب والكرد في جسدأ أمة واحدة. ذلك لم ولن ينساه بتاتاً العربي، لذلك كان أكثر من رحب بالكردي النازح من الجبال المحاذية لتركيا، وإيران، وروسيا، وأرمينيا وجورجيا. المؤكد أن مثل ذلك سيبقى، وعناصر موحدة أخرى، أنسب قاعدة للتعايش العربي- الكردي. تعايش بعيد عن الحساسية والحذر من جانب واغتنام الظروف من الجانب الآخر. بهذا الشكل من المؤكد أن الأكراد لن يكونوا يوماً أحد مشاكل العرب المقبلة، كما لم يكونوا يوماً سابقاً.

٭ كاتب فلسطيني. إسبانيا

د. ناصر عبد الرحمن الفرا

عدد الزوار 20681، أضيف بواسطة/ محمد صلاح الفرا