الزنادقة والظلاميون… متى يقبل أحدهما الآخر؟
الصراع بين معسكري الإسلام السياسي واليساري أو العلماني يغلب عليه الرفض المطلق للآخر، الإسلاميون ينفون كل مليحة عن المعسكر الآخر، يتهمونهم بتدمير الثقافة العربية الإسلامية، يعتبرونهم مخالفين لشرائع السماء وأداة تغريبية هدفها إسقاط المشروع الإسلامي، وفي أدبيات كثيرة يكفرونهم. اليساريون بدورهم يعتبرون الإسلاميين رجعيين ظلاميين مضطهدين للمرأة، غيبيين لا علميين، وسبب تراجع المنطقة العربية وعدم التحاقها بركب الامة المتحضرة.
لا مجال لإنكار هذ الواقع المرير الذي نعيشه ونعانيه بشده في منطقتنا، وفي رأيي أن كل من يقول بغير هذا يدفن رأسه في الرمال كالنعام. لا بأس بهذا الشعور إن لم يتعد الإحساس الداخلي الذي لا يتبلور إلى فعل، يدفع باتجاه تدمير الآخر المخالف. الحال الموجع الذي نعيشه هذا يحمل في طياته واقعاً لا بد من الاعتراف به: لا مجال لمقارنة قوة التيارين، فرغم وجود اليسار في كل البلاد العربية، إلا أنه ضعيف وقدرته على تحريك الشارع أو التأثير في الأحداث لا تكاد تذكر، مقارنة بتيار الإسلام السياسي، وإن حدثت المواجهة فالنتيجة محسومة من دون شك. من هنا يأتي الرعب الذي يسيطر على الحركات العلمانية واليسارية، ببساطة يعتقدون، أن صعود الإسلام السياسي سينتج عنه استئصالهم تماماً من الصورة سياسياً، اجتماعياً وربما جسدياً. هذا الرعب متجذر لدى هذا المعسكر ونتجت عنه مواقف أقل ما يقال إنها متخاذلة، اتخذتها أحزاب اليسار في عدة دول تجاه الأنظمة الديكتاتورية، وربما كان أكبر مثال موقف اليسار المصري، باستثناء الاشتراكيين الثوريين وحركة 6 ابريل، تجاه نظام السيسي بدعمهم للتفويض في 30 يناير، وصمتهم عن القمع الذي يمارسه النظام تجاه حركة الاخوان المسلمين والمعارضين بصفة عامة.
وحتى أكون منصفاً هذا الرعب لدى قوى اليسار له ما يبرره، فحركات الإسلام السياسي التي قبلت الديمقراطية، وإن كانت أدبياتها المعلنة تنص على قبول الاخر ضمن نظام سياسي يضمن التعددية، إلا أن المدقق في أدبياتها، التي لا تتصدر الواجهة، يجد الكلمة السحرية التي تسبب هذا الرعب، «التمكين»، فحركات الإسلام السياسي في كل الدول التي وصلت للحكم فيها لم تصل بعد لمرحلة التمكين، في تركيا مثلاً، رغم قوة حزب العدالة والتنمية الواضحة، إلا أن قدرته على الاستمرار في الحكم مرتبطة بعلاقاته السياسية، الاقتصادية والعسكرية بما فيها المخابراتية في الدول الاوروبية، أمريكا وإسرائيل، كذلك وجود الجيش كحام للدولة العلمانية التي أسسها أتاتورك ويلتزم بها حزب العدالة والتنمية، وأي خروج عن هذه المنظومة في ظل توازنات القوة العالمية سيكون بمثابة انتحار سياسي للحزب وسقوط مريع لتجربته.
رأينا في مصر كيف فاز الاخوان المسلمين بالانتخابات، ولم يستطيعوا الصمود في وجه الجيش، عندما قرر إنهاء حكمهم بانقلاب بتفويض شعبي ندم عليه الكثيرون. وفي قطاع غزة ورغم سيطرة حماس المطلقة، إلا أن وضعها لا يمكن وصفة بـ»المتمكن» تحت حصار إسرائيلي، ورفض دولي وعداء سلطوي فلسطيني ومصري حكومي واضح. وكمثال على خوف اليسار من نوايا الإسلام السياسي، تأتي الدراسة بعنوان «حماس والحركات السلفية، آفاق الرؤية والعمل المشترك»، التي أعدها أحد قيادات حماس المعتدلة د.أحمد يوسف، الذي أكن له شخصياً كل تقدير، فرغم حكمته وواقعيته التي جلبت له الكثير من العداء والاتهامات داخل حماس وخارجها، استخدم في صفحة 60 من الدراسة: «كثرة المنافقين والمتآمرين في المجتمع! وعدم الوصول للتمكين لتبرير عدم تطبيق حماس للشريعة في غزه». وحتى أنصفه أضاف شبه الاجماع لمعادلة.
مرحلة التمكين هذه تعني قضاءهم على كل من يخالفهم في فهمهم لطبيعة الحكم التي يجب أن تكون بتطبيق فهمهم لشرع الله والقرآن والسنة بالقوة، ورفضهم لأي فكر دنيوي، مدني يدعو لنظام تتحق فيه المساواة الكاملة بين المواطنين بغض النظر عن الدين، بمعنى أنهم لا يحكمون بانفسهم ولكنهم وسطاء لله على الأرض، وهنا تكمن الخطورة التي دفعت اليسار، خطأً، لمهادنة الديكتاتوريات كونها القوة التي ستحميه في وجه الإسلام السياسي حال تمكنه.
سيظل هذا الصراع، الذي يحمل في طياته شطب الآخر محتدماً، شئنا أم أبينا، ولا أعتقد أن أياً من المعسكرين سيحقق نصراً بالقضاء التام على الآخر، من هنا تنبع أهمية أن نناضل لهدف يجب أن نصل إليه إن اردنا لمجتمعاتنا، السلام والتطور والتركيز على أمر أكثر أهمية من الصراع المدني الديني، كالتخلص من الاستعمار والاستغلال وانعدام العدالة الاجتماعية.
هذا الهدف هو الوصول إلى مرحلة فكرية معينة لدى الطرفين، المعسكر اليساري يجب أن يقبل بالإسلام السياسي، رغم قناعته بظلامية الإسلاميين وكل ما يرفضه فيهم، ضمن النسيج الاجتماعي، بمعنى عليه قبوله كفكر يرفضه، ولكن لا يعمل على تدميره وأن يصدق أدبياتة المعلنة.
المعسكر الإسلامي، وعليه الدور الأكبر كونه الأقوى والمسيطر وصاحب التاريخ الإقصائي الواضح ، يجب أن يعمل على توعية كوادره بأنه، وعلى الرغم من رفض الطرف الآخر لتطبيق الشريعة، وربما رفضه للاديان بصفة عامة، فهو أيضاً مكون مجتمعي مهم يجب قبوله، وأن يوضح إن هذه هي مراجعاته الفكرية بعيداً عن مفهوم التمكين. ببساطة، عندما ننشئ، جميعنا إسلاميين وغيرهم، اجيالنا القادمة على أن نحكم على المرء بعمله، بتضحيته، بحبه للناس، بصدقه، بنفاقه من عدمه، بحبه للخير بايثاره بالتزامه بالقانون بأخلاقه العالية، بانتاجه، وليس بمعتقده أيا كان، دينيا أو لا ديني، عندها فقط يكون هناك أمل في مجتمع يشعر فيه الفرد بأنه جزء منه ويعمل بقوة على تطويره. يبدو هذا الهدف سهلاً ولكن واقع الحال، يؤكد انه ستمضي عقود طويلة وتجري مياه كثيرة تحت الجسر قبل تحقيقه.
٭ كاتب وناشط سياسي من فلسطين
مشير الفرا