صبرا وشاتيلا.. المجزرة مستمرة لكن الياسمين أقوى
بعد 33 عاما على ارتكابها، لم تنته صبرا وشاتيلا، ولن تنتهي للأبد حكاية مخيمين فلسطينيين يقعان جنوب العاصمة اللبنانية بيروت، قدّما ما بين 3500-5000 شهيد في المذبحة المروعة آنذاك.
لا تتذكر حياة (33 عاما)، والتي تعيش في إحدى ضواحي عمان الغربية، متى أحست أول مرة بالاغتراب عن والديها، لكنها تقدر أن ذلك حدث حين كانت بين سن السادسة والسابعة، حين سمعت همسا من القريبات والجارات أنها ليست ابنة هذه العائلة، وأنها جاءت إليها رضيعة ناجية من صبرا وشاتيلا، وبدأت تكتشف بنفسها اغترابها عنها، فلا الأم ولا الأب يُشبهانها، ولا حتى طباعهما تشبه طباعها.
'عشت حالة نفسية صعبة لسنوات طويلة، وآثرت الصمت، لأنه لا يعقل أن أقول لرجل عاملني أميرة، وأم لم تُشعرني يوما أني طفلة متبناة، مَن هم أهلي الحقيقيون؟ خجلت بعد هذا العمر من جَرحهما بهذا السؤال، وفي المقابل ظل جرحي ينزف طيلة الوقت' قالت حياة، وأضافت: 'نزيف الجرح بات أقل بعد زواجي من شاب أردني فلسطيني الأصل أحببته في سنتي الجامعية الأولى، وحين أنجبت طفلين شعرت أن ألمي قل قليلاً، لكنه لم ينته ولن ينتهي أبدا، حتى لو عرفت في يوم ما أسماء أهلي الحقيقيين، لأنها ستظل أسماء، ولن نلتقي مع أني لم أفقد الأمل بلقاء وجه أمي'.
هل لي أخوة؟ كم عددهم؟ ماذا كان يعمل أبي؟ ما اسمه؟ ماذا كانت تحب أمي من الأكل؟ ما شكلها؟ هل تشبهني؟ أنا متأكدة من أنها تشبهني لأن طِفليّ يشبهانني؟ وصل الحد بي لأن أكتب على محرك البحث 'غوغل': وجه أمي!؟ وأن أطلب من الله وأنا أنظر للسماء في ليالي رمضان أن يعكس لي صورة وجهها على القمر؟ كم عمري؟ لا أصدق شهادة ميلادي الحالية؟ وهل لي شهادة بالتاريخ الذي وُلدت فيه، ولي اسم أب وأم وجد وعائلة، وأسئلة أخرى كثيرة تخلع القلب تلخص حكاية حياة.
تبنى طبيب أردني الرضيعة حياة، وزوَجها من الشاب الذي أحبّته، وعاشت في بيت لا ينقصه شيء، غير أن الإحساس الداخلي بالفقدان واللوعة ظلا يلازمانها! فقد الهوية، والتشتت الذي لن تستطيع كل نساء العالم ورجاله من جمعه.. لن يقرأ اليوم مهندسا المجزرة، رافائيل ايتان وارئيل شارون هذه القصة، ولن يُعيدا ما فُقد، فالذين بقروا بطون الحوامل، وداسوا الجثث بالجرافات، وعلقوا بعضها على الأشجار، وأطلقوا النار بكثافة على الاطفال وكبار السن على عتبات البيوت وفي أسرّة النوم والمرض، لم يسمعوا يوما بالضمير والإنسانية، ذلك انهم تربوا على الوحشية والذبح.
تضيف حياة، أشعر اليوم بإيجابية، والأمل بحياة جميلة رغم فقدي ما يُشعرني بذلك، يعود ذلك لتحملي وصبري، ووجود زوجي الوحيد الذي أطلعته على سري، وقف معي قبل زواجنا، وخفف بكائي ليلا كلما تذكرت أني أريد معرفة أمي، وكثيرا ما طلب مني أن لا افكر في الموضوع وانه وطفليهما سيملآن حياتها.
'أكره الحروب وأخبارها، فكل حرب بالنسبة لي هي صبرا وشاتيلا حتى لو فقد فيها طفل واحد، كل طفل أراه على التلفاز يبكي وسط قصف أو في موجة تهجير، أراني فيه' تقول حياة التي وهبها الله أهلا وزوجا لم يُشعرانها يوما أنها ابنة شهداء أو ضائعين أو مجهولين، وكانت أكبر من هول المجزرة!
يذكر أن المجازر المرتكبة بحق أبناء المخيم استمرت لمدة ثلاثة أيام وهي 16-17-18 أيلول 1982، حيث قام الجيش الاحتلال الإسرائيلي وجيش لبنان الجنوبي بمحاصرة مخيمي صبرا وشاتيلا وتم إنزال مئات المسلحين بذريعة البحث عن 1500 مقاتل فلسطيني، بينما كان المقاتلون الفلسطينيون خارج المخيم في جبهات القتال، ولم يكن في المخيم سوى الأطفال والشيوخ والنساء، وذلك انتقاما من الفلسطينيين الذين صمدوا في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية طيلة ثلاثة أشهر من الحصار، الذي انتهى بضمانات دولية بحماية سكان المخيمات العزل بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، لكن الدول الضامنة لم تفِ بالتزاماتها وتركت الأبرياء يواجهون مصيرهم قتلا وذبحا وبقرا للبطون.